وتأتي خطورة الإعلام وسطوته من الخصائص الآتية:
1 – الإعلام الغربي عنصري ومنحاز، فالمالكون للإمبراطوريات الإعلامية في أوروبا وأمريكا هم البيض ذوو العيون الزرقاء، والشعر الأشقر، وأكثرهم يهود، فاليهود هم أسياد الإعلام وأبرز مثال على عنصرية الإعلام وتحيزه تهميش الإسلام، فمن بين 100 ساعة بث تلفزي في القنوات البريطانية، لا يخصص للإسلام والمسلمين إلا 10 دقائق، وعادة ما يكون الموضوع فيها إحراق الكتب، أو اضطهاد المرأة، أو تشكيل جماعات إرهابية، أو تصوير المسلمين وهم يزحفون على السفارات الأجنبية ويحاصرونها، ويشعلون النار في عَلَم دولة أجنبية.
كما تتجلى عنصرية الإعلام الغربي وانحيازه المكشوف في القوائم السنوية للمشهورين عالميا، فدائما يكونون أمريكيين وبريطانيين:
ففي إحدى قوائم ما بعد الحداثة نجد: الملكة إليزابيث الأم، غوربا تشوف، ريجان، ألفيس بريسلي، إنها لائحة اعتباطية إذ لا توجد قيم روحية أو إنسانية أو أخلاقية في حياة هؤلاء المشاهير فحياة أغلبهم ملأى بالنزوات والرعونة، ويستمدون نجومتيهم من تركيز الإعلام عليهم، وربما كان غوربا تشوف الوحيد الذي أحدث تحولا في التاريخ لصالح الغرب طبعا.
وفي قائمة أخرى من قوائم ما بعد الحداثة لا يوجد من بين المشهورين عالميا إلا مسلم واحد هي بنازير بوتو، ولعل السبب وجهها الجميل، وطلعتها البهية، وسحرها الأنثوي.
وفي مقابل ذلك عندما يتعلق الأمر بأسوإ الرجال عالميا نجد أن الأغلبية من المسلمين كصدام حسين، والقذافي، والخميني، وجمال عبد الناصر باعتبار هذين الأخيرين خصمين عنيدين للغرب. أما فلسطين فهي رمز اختطاف الطائرات والإرهاب بأشكاله المختلفة.
2 – الإعلام الغربي يضع حقائق أغرب من الخيال، فالكاتب التافه سلمان رشدي صنع منه الإعلام بطلا ورمزا للكاتب المضطهد، تحرق كتبه ويفتى بقتله.
كما عمم الإعلام نموذج شخصية صدام حسين التي تشكلت خلال حرب الخليج، عممها على كل العرب، وجردت الحضارة العربية من قيمها الإنسانية النبيلة، وصار العرب مجرد أوغاد يبذرون المال لغير حساب في كازينوهات الغرب، أو مجرد أناس تافهين يزعجون جيرانهم، وعرب شبه الجزيرة بدو رحل حفاة أجلاف. في الإعلام الغربي يتحول أصدقاء الغرب فجأة إلى أعداء عند ما يتغير اتجاه رياح السياسة، ليس للإعلام ذاكرة، ولا يعرف معنى الموضوعية أو الوفاء، فهو ذو طبيعة مزاجية متقلبة يلمع صورة شخص ويصنع فيه نجما بلا مقدمات ثم يدمره فجأة أيضا وفي وقت قياسي
3 – تخليد الوقائع التي تخدم قضايا معينة وعرضها جيلا بعد جيل، ويستلهم الإعلام الثقافة الغربية بجذورها اللاتينية والإغريقية من هوميروس إلى شكسبير، يقدمها التلفزيون والسينما جيلا بعد جيل ويضمنان لها انتشارا واسعا عن طريق أفلام الكرتون، والخيال العلمي والقصص التاريخي والروايات الرومانسية والملاحم، وغيرها من أوجه الإبداع المختلفة التي تسهم في خلق رأي عام وثقافة موحدة لدى الغرب.
فإلفيس بريسلي elvispresley لم يمت خلدته وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة ، من ذلك : برسلي أسطورة لم تمت .
4 -الإعلام انتقائي:
فاختطاف جندي أمريكي في العراق خبر يتصدر عناوين الأخبار، ولكن موت 1000 شخص في بنغلاديش، أو في الصين ليس خبرا. ولا يرى في الإسلام إلا الجهاد، والحجاب، وقتال المشركين، أما أنه دين المحبة والتسامح والرحمة والتكافل فلا يلتفت إليها.
كما يتعامل الإعلام مع القضايا ذات الطابع الإنساني والأخلاقي والروحي بحياد بارد، إذ يمكن للتلفزيون أن يعرض صورا بهيجة لأعياد المسيح في أمريكا، ثم يردفها بقوافل الجياع في إثيوبيا ولا يرف له جفن.
5 – أخيرا فإن الإعلام الغربي ينهض بدور أساسي في السياسة الدولية، وسيزداد هذا الدور مستقبلا. لقد حققت وسائل الإعلام الأمريكي على سبيل المثال، ما عجزت عنه السياسة وهو فرض الهيمنة الأمريكية على العالم.
كما نجحت هوليود حيث فشل البنتاغون. والعلاقة بين الاثنين أنَّ أكبر عائدات أمريكا من إيراد الأفلام، ومن إيراد الأسلحة.
إن سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي سابقا أكبر إنجازات الإعلام الغربي الباهرة، فقد استطاعت البروباغندا إحداث تصدع في المعسكر الشيوعي، وأخذت الشيوعية في الاحتضار قبل ظهور غوربا تشوف على المسرح السياسي.
إن إعلاما قويا هذه خصائصه هو اللاعب الرئيسي في عالم ما بعد الحداثة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو المسؤول بدرجة كبيرة عن التحولات الكبرى في العالم، وهو أخطر أنواع الأسلحة التي يستعملها الغرب الآن لفرض هيمنته وإحكام قبضته على العالم.
هذا هو أكبر درس في الأزمنة الحديثة، ومع الأسف الشديد فإن المسلمين لم يستوعبوا هذا الدرس وهم الضحية الأولى لهذا الإعلام القهري المنحاز، فصورة المسلم في العالم هي الصورة التي تروجها وسائل الإعلام في التلفزيون وفي الإذاعة وفي الصحافة المكتوبة:
ألفاظ بذيئة جارحة لا حصر لها في الصحافة المكتوبة والسخرية اللاذعة في مسلسلات التسلية، والنكات التي يتداولها الشعب، وبسبب هذا العداء المستحكم ليس للمسلمين صوت في الإعلام، ولا في البرامج السياسية، ولذلك لا يحق لهم أن يعترضوا ولا أن يوضحوا، فهم رمز التعصب والأصولية المقيتة، والإحباط الذي يشعر به المسلمون يترجم أحيانا إلى عنف وغضب.
موقف الإعلام العدائي تجاه المسلمين قديم ومتجذر في التاريخ، وله أسباب كثيرة منها:
- الحروب الصليبية: فما زالت أروبا تحتفظ بذكرياتها المريرة عن المواجهة مع الإسلام ثقافة وحضارة، فبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط التي حكمها المسلمون كليا أو جزئيا مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان يقيمون مهرجانات سنوية احتفالا بطرد المسلمين من بلدانهم.
- ومنها حظر البترول سنة 1973 بسبب أزمة الشرق الأوسط.
- ومنها معاداة السامية، ويجب التنويه هنا إلى أن المسلمين حلوا محل اليهود في الغرب باعتبارهم العنصر البشري الكريه والمقرف، والمسلمون المهاجرون الذين يعيشون في بريطانيا وألمانيا وفرنسا يعانون من العنصرية، فرغم أنهم يحملون جوازات سفر تلك البلدان وجنسياتها إلا أنهم لم يتمكنوا من الاندماج عاطفيا وثقافيا بسبب رفض مواطني تلك البلدان لهم.
إن أي فرد مسلم تحكم عليه الظروف بالإقامة في الغرب لا بد أن يشعر بأنه عنصر دخيل وأجنبي غير مرغوب فيه مهما طالت مدة إقامته، كما أن أوروبا نفسها تنظر إلى الدول الإسلامية في الجوار بحذر وتوجس.
هكذا تختلط ذكريات الحروب الصليبية مع ذكريات حظر البترول، ومعاداة السامية فتلمع في الأذهان صور صلاح الدين الأيوبي، وصور الشيخ زكي اليماني.
موزاييك من الوقائع والأحداث والشخصيات تلتحم وتنصهر في بوتقة واحدة لتولد لدى الغرب هذا العداء الشديد.
وأصبحت ألفاظ مثل: الجهاد، والفتوى، والارهاب، والأصولية، جزءا من المعجم اليومي للإعلام الغربي ولكن بعد إفراغها من دلالاتها الشرعية وشحنها بدلالات مغرضة.
كل هذه العوامل وغيرها تدفع أوروبا إلى تحديد هويتها ليس بالعقيدة المسيحية فحسب بل بمسيحية الموروث الحضاري للتأكيد على تميزها، ولتضع حاجزا بينها وبين الإسلام، ومعنى هذا أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية فالمقصود هو الغرب المسيحي، لقد كان المفهوم السائد للحضارة الغربية حتى القرن الثامن عشر هو المفهوم الديني وهذا هو المفهوم الجديد للحضارة الغربية، فالمسلمون الذين يعيشون في المجتمعات الغربية ليسوا جزءا من هذه الحضارة، فهم مستبعدون من الانتماء للحضارة الغربية، وكذلك استبعاد غير البيض حتى ولو كانوا مسيحيين.
هذا هو عالم ما بعد الحداثة، وتلك أبرز خصائصه المميزة له، وعلى رأسها الإعلام المعادي للإسلام والمسلمين.
فكيف ينظر المسلمون إلى ما بعد الحداثة؟ بعض المفكرين المسلمين الذين كتبوا عن مرحلة ما بعد الحداثة يجعلونها مرادفة للحضارة الأمريكية التي توجد في طليعة الحضارة الغربية وفي مقدمتها، فعالم ما بعد الحداثة عالم أمريكي بامتياز تهيمن عليه أمريكا عسكريا وإعلاميا وثقافيا، يموج بالمنكرات، كالجنسية المثلية وزنا المحارم وفساد الذمم واتباع الشيطان، ولا يخفى أن بعض مفكري الغرب يتبنون وجهة النظر تلك رغم أنها غير دقيقة وتختزل المسألة بشكل دقيق.
“ولعل الكتاب يشير هنا من ضمن ما يشير إليه إلى روجي جارودي الذي ألف كتاب أسماه أمريكا طليعة الانحطاط، الذي سمى القرن العشرين عصر التاريخ الحيواني للبشر، ويدعو إلى تحالف جديد لدول الجنوب لمواجهة الهيمنة الأمريكية والتبعية والاستغلال، وتهميش السواد الأعظم من البشرية…”.
إن رد فعل الإنسان المسلم تجاه ما بعد الحداثة هو الرفض المطلق، فهي ضرب في العدمية والغنوصية، تتنكر للدين والأخلاق، وتعادي الإسلام والمسلمين، وهو نفس موقف المسلمين من الحداثة فقد كان الباكستانيون يكسرون الراديو قبل بضع سنوات لأنه يمثل رمز الحداثة، وهي رسالة إلى الشباب المتطلع إلى التغيير؛ كان هذا في الماضي، أما الآن فالأمر مختلف فوسائل الإعلام، أو التكنولوجيا الإعلامية الجبارة تصل إلى كل مكان بالصوت والصورة. لم يعد العالم قرية صغير بل إنه بحجم راحة اليد، يصغر حجمه يوما بعد يوم، هذه هي طبيعة عالم ما بعد الحداثة، فالغرب من خلال حضارته الكونية المهيمنة يستمر في بسط نفوذه ليشمل بقية العالم، بعض الحضارات ستقاوم وتصمد إلى حين، وبعضها سيتكيف مع الحضارة الغربية.
الإسلام وحده سيقف صامدا وسيستمر في المقاومة والتحدي، لذا فهو مرشح للصدام مع الغرب، ليس صدام ثقافات أو شعوب، بل صدام فلسفتين متعارضتين، ونظرتين مختلفتين إلى العالم: حضارة مادية، وحضارة تقوم على القرآن والسنة.
ولا شك أن الطرفين كليهما: الإسلام والغرب، أمامهما تحديات جمة:
بالنسبة للمسلمين كيف يحافظون على جوهر الرسالة المحمدية ممثلا في العدل والإحسان، والعلم والصبر وكيف يسهمون في الحضارة العالمية دون فقدان هويتهم والتخلي عن دينهم.
أما التحدي الذي يواجهه الغرب فهو كيف يمكنه أن ينشر قيم الحضارة الغربية كالمساواة والحرية، وحقوق الإنسان، خارج نطاق أوروبا وأمريكا لتصل إلى كل شعوب العالم.
د. محمد بوحمدي