إن الأمم على اختلاف أديانها وعقائدها ومناهجها كلها تعد التربية والتعليم أداة الرقي والتفوق، والحضارة والتقدم، لأنها سبيل لصيانة أجيالها وطريق لبناء الشخصية السوية وإعدادها لخوض المنافسة العالمية بجدارة واقتدار، لكن الفارق بين الأمم هو أن كل أمة تصوغ مناهجها وتضع فلسفتها التعليمية وفق ما يخدم عقائدها وتصوراتها للكون والحياة والإنسان، فالغرب بنظرته الرأسمالية يهدف إلى تحقيق التقدم والازدهار لأجياله فيسخر كل إمكاناته من صناعات وسياسات ومناهج -يأتي التعليم على رأسها- لتحقيق أكبر قدر يمكن من الرفاهية والاستمتاع بهذه الحياة الرخيصة.
وأصحاب المذهب الشيوعي الاشتراكي أقصى هدفهم من تعليمهم تحقيق مبادئ الاشتراكية المثالية في مناهج مبنية على تضييق التفاوت الاجتماعي وفق إيديولوجية معينة تظهر في مناهجهم التعليمية.
فكل أمة لها وجهتها مصداقا لقوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا (البقرة: 147).
لكن أمم الأرض متفقة على أن التعليم هو قناة بناء الأجيال وتشييد الأمجاد.
ونحن نتساءل عن أنفسنا وموضعنا من بين هذه الأمم في نظرتنا للتربية والتعليم، دون أن نغفل أثناء هذا التساؤل إخبار ربنا حين قال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (آل عمران: 110)، فالخيرية لا بد أن تتحقق في كل المجالات ومنها تربيتنا وتعليمنا.
فهل استطعنا أن نحقق ذلك؟ وهل وضعنا المناهج التي تخدم هذا الهدف وتحقق النظرة الشرعية للكون والإنسان والحياة؟ وما مدى التزامنا بأصالة منهجنا وقيمنا؟ وما حدود انفتاحنا على باقي المناهج الأرضية الخاصة بالأمم الأخرى؟ وهل كل المناهج تصلح لبناء القيم الخاصة بمجتمعاتنا الإسلامية وهويتنا الحضارية أم أن التقدم وتطور العلوم يقتضي منا اتباع كل جديد كيفما كان وأينما كان وبأي هدف كان لنستطيع الرقي بتعليم أبنائنا، من هنا يبرز دور المناهج التعليمية المتبعة والمرسومة عند كل أمة من الأمم، لإسعاد أفرادها وتحقيق ازدهارهم وقوتهم، مع اختلاف النظرة إلى حدود تحقيق هذه السعادة كون الأمة المسلمة ترى أن السعادة والشقاء ليسا مرتبطين بهذه الدار الدنيوية فقط، بل هناك يوم يأتي لا محالة، الذي قال فيه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود: 105 – 108).
فأي تعليم وأي تربية لا تنقذ أبناءنا من الشقاء الأبدي ولا تمنحهم السعادة السرمدية فهو تعليم منقوص، وأي مغنم أن يحصل الإنسان على أعلى الشهادات وأضخم النعم والثروات والنجاحات الدنيوية ثم يصير إلى عذاب النار والعياذ بالله؟؟؟؟
من هنا افردت رؤية الإسلام الكبرى في الأصل الذي تنبني عليه تغيير مناهج مادة التربية الإسلامية والسياقات الذي أتت فيها هذه المطالبة بالتغيير مع ما يشهده العالم من تغيرات واتجاهات للأسف صب بعضها في نعت الإسلام بالتطرف والإرهاب ثم اتجهت بعد ذلك أصابع الاتهام إلى مناهج التعليم العربية والإسلامية ومقرراتها الشرعية باعتبارها عاملا أساسيا في تغذية العنف والتطرف، وتخريج عقليات متعصبة، وهو ما يستدعي تغيير هذه المناهج، وفي بعض الأحيان المطالبة بحذفها.
وهذا ما خلق صداما فكريا حادا بين من يطالب بتغيير المناهج الشرعية بتهمة نشرها للتطرف والغلو، ومن يعارض هذه التهمة ويرفض هذا التغيير بتاتا، بحجة أن الإسلام دين بريء مما ينسب إليه من التطرف، وأنه دين الرحمة والوسطية والاعتدال، وأن المواد الشرعية ومناهجها غير مسؤولة عن هذا الواقع، فالمناهج القديمة خرجت لنا أجيالا منها من هم أطر دولة وفي وظائف متنوعة تخدم وطنها.
ثم جاء التساؤل عن المتخرج من هذه المناهج هل تلقى مبادئه وأفكاره فقط من المدرسة؟ أم أن هناك مصادر أخرى للتلقي نتجاهل دورها وتأثيرها مثل الأسرة والشارع والإعلام وخصوصا الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل الدين الإسلامي يشجع على الإرهاب أم يعالجه؟ وأين دور باقي الأديان وتأثيرها على مناهجها القائمة في نشر التسامح والسلم؟ كلها وغيرها تساؤلات تنحو إلى أن دعوى تغيير المناهج هي دعوى منكرة وباطلة إذ ارتكزت على هذه المزاعم والتهم للإسلام.
وفي ظل هذين الاتجاهين المتناقضين ينبغي أن ننبه -وبالحيادية التي يتطلبها الإنصاف العلمي- إلى أن رجم مقررات التربية الإسلامية والإسلام بهذه التهم هو من قبيل التجني والرجم بغير علم، كما أن رفض تغيير المناهج وخصوصا الشرعية، من قبيل الفهم الخاطئ لمعنى عملية تغيير المناهج، إذ لا بد أن نميز بين تغيير ثوابت الإسلام وقطعياته -التي لا تقبل التغيير أو المراجعة- وبين تغيير أو تطوير المناهج التي تعد نتاجا بشريا قابلا للاجتهاد والتطوير.
كما أن فعل التطوير والتجديد يعد سنة شرعية جسدها الرسول في مختلف مراحل الدعوة، التي عرفت مسارات عديدة، تنوع فيها الخطاب حسب مرحلة الدعوة السرية والجهرية، ومرحلة الدعوة المكية والمدنية، وتصديقا لما صح عن الرسول : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599)).
فالتجديد إذ كان مشروع فهو إيجابي لكونه يسعى إلى إحياء ما اندرس من أحكام الشريعة وتصحيح لما حرف فيها، وتحتاجه الأمة المسلمة على الدوام لتحقيق معنى الشمول والاستمرارية التي تتميز بها الشريعة الإسلامية.
فوصف مناهج العلوم الشرعية عموما، والتربية الإسلامية خصوصا بالقصور، والدعوة إلى تجديد وإعادة هندسة مقرراتها، وتجديد وسائل تدريسها، وطرق تقييمها هي سنة تربوية تصيب كل المناهج بعد مرور الزمن، وحدوث المتغيرات، وتحول المجتمعات، فالمقررات الدراسية في العلوم الشرعية ليست هي الشرع، لكن الدعوة إلى تغييرها بخلفية حاقدة أو من منطلق التهمة هو أمر مرفوض، أما التغيير الخاص بالوسائل والطرق بما يخدم مقاصد الشرع رمصالح العباد فهو أمر مقبول شرعا وعقلا وواقعا.
وبذلك نخرج من هذه الجدلية الثنائية، ونتجاوز السؤال حول مشروعية تطوير المناهج من عدمه؟ لننتقل إلى التساؤل عن كيفية إحداث هذا التطوير، وذلك بهدف الرقي بمناهج التربية الإسلامية على أساس قائم على الالتزام بما هو صفته الثبات في المصدرية، والمرونة في الوسائل والطرق، وعلى التوازن بين التراث والحداثة، والانفتاح على المستجدات والنوازل والقضايا المعاصرة في بيان أحكامها، وعلى الوسطية والاعتدال في بناء الفكر والمعتقد ورفض التطرف من جهة وإنكار التميع والوقوف في وجه التحلل والتفسخ من جهة أخرى، ونبذ العنف والدعوة إلى التسامح وحسن التعامل مع الإنسان مهما كانت عقيدته، وفق قواعد ومبادئ الشرع الحنيف التي انبَنت بدعوة المخالف بالتي هي أحسن مصداقا لقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل: 125).
وهكذا فالمسلم العاقل لاقف ضد إصلاح مناهج مادة التربية الإسلامية إذ روعيت مراعاة خصوصيتها وأصول بنائها الثابتة ورسالتها ونظرتها الشاملة إلى الإنسان والكون والحياة.
وتبقى التساؤلات الواردة في ظل التغيير الجديد: إلى أي حد استطاع المنهاج الجديد تحقيق هذه النظرة الشاملة؟ وما هي الضوابط والأسس البيداغوجية والتربوية التي بنيت عليها مناهج التربية الإسلامية؟ وما مدى اعتماد التصور الإسلامي انطلاقا من تراثنا الإسلامي وأعلام المسلمين في صياغة هذه المناهج؟ وما صفات المدرسين الذين سيسهمون في تصريف هذا المنهاج؟ وما هي المعالجات التربوية الملائمة لتنزيل منهاج التربية الإسلامية؟ وما هي المقاصد الموضوعة لمناهج التربية الإسلامية الجديدة ومدى ملاءمتها للفئات المستهدفة؟ وما هي إجراءات تنزيلها؟ وما هي القيم المصوغة في مناهج التربية الإسلامية والكفيلة بإصلاح أخلاق ناشئتنا؟ وهل هي المسؤول الوحيد على تعليم القيم والأخلاق؟ في حين يعفى من هذا المقصد القيمي باقي مناهج المواد الدراسية؟ وأين الحديث عن المعرفة التكاملية التي تحدث عنها ميثاق التربية والتكوين؟ ولماذا يتم الحديث عن تغيير المناهج التربية الإسلامية كسبيل للارتقاء بها في حين نغفل الحديث عن الارتقاء بها من حيث المعامل والحصيص الزمني المخصص لها وعدم تعميمها على بعض الشعب الأخرى (البكالوريا الدولية؟)
كلها وغيرها تساؤلات ملحة في ظل هذا التغيير الجديد نأمل الإجابة عنها مع من يشاركنا هذا الهم في مقالات مقبلة بحول الله ومشيئته.
ذ. رضى محرز