لا يوجد شيء يهدد أمن الإنسان واستقرار المجتمعات أكثر من الإجرام في الأرض. وهو صور عديدة ومستويات متفاوتة؛
فمنه الإجرام في حق الله تعالى بالجهل به والإعراض عن سننه، والصدود عن هداه والصد عنه، والاعتداء على حرماته وانتهاكها.
ومنه الاعتداء على الأرواح والأبدان بالقتل والتخويف.
ومنه الاعتداء على الممتلكات المادية من الأموال والكسب والمعايش بالسرقة والغصب والاحتيال عليها بالغش والتزوير…
ومنه الظلم في القضاء وتوزيع الحقوق بين الناس بالعدل والإنصاف، من غير إجحاف ولا اعتساف.
ومنه استعمال كل أنواع القوة والسلطة غير المشروعة لقهر المستضعفين وإجبارهم على المعصية وقبول الظلم والتطبيع معه.
ومنها التقصير في القيام بالمصالح العامة للأمة المنوطة بأصحاب الولايات وتدبير الشأن العام.
إن هذه الأنواع من الجرائم ومستوياتها ليست إلا عرضا لعلة أكبر؛ إذا عولجت حق العلاج وعني بحفظ النفوس منها تمكنت البشرية من القضاء على كل ما عداها من العلل وسلمت الحياة ونعم الناس بالاستقرار ونعمت الأمم بالرقي والازدهار. إن أصل الداء في التصور الإسلامي يرجع إلى الإجرام في حق الله تعالى بالكفر به والإعراض عن دينه والتكذيب بما أرسله من الرسل الحاملين لهداياته، وتسفيه الدعاة إلى توجيهاته.
يقول تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (القلم: 35 – 36) فقابل تعالى بين المسلمين والمجرمين، والإسلام والإجرام، ليدل على أن الإجرام هو عصيان الله تعالى ورفض الدخول تحت طاعته والإسلام له جل وعلا.
وقال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ (يونس: 17 – 18)، فحكم جل وعلا على كل من كذب به وبرسله وانصرف إلى عبادة غيره بأن تصرفه يقع في أعلى مستويات الظلم وبسبب ذلك استحق أن يكون من المجرمين الذين لا يفلحون..
إن هذا النوع من الإجرام المقتضي للاستكبار في الأرض: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (الأعراف: 133، و يونس: 75) هو العلة الأولى لكل أنواع الإجرام، وعلاجه هو الكفيل بدفع مفاسده ودرء مخاطره.
لذلك وجه الإسلام إلى الحلول الجذرية والوسائل الحقيقية لدرء كل صوره وحفظ الإنسانية من ضرره على رأسها ما يلي:
أولا إشباع النفوس والعقول بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والعمل بما جاء في الإسلام، ولا يكون ذلك إلا بجعل التربية الإيمانية أولى الأولويات في مشاريع التربية والتعليم والإعلام وفي برامج الأمة في مختلف القطاعات والمستويات، والتدرج بالناشئة في العلم بالله تعالى والعمل بهداه حتى تكون أكثر خشية له، وأقوى ثباتا على الخير، وأسرع للتناصح والتعاون فيه وعليه؛ فليس شيء أنفع لتهذيب النفوس وإصلاحها مما شرع الله تعالى من تشريعات وهدايات: فالصلاة صلة بالله تعالى للتورع من الفواحش: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَر (العنكبوت: 45)، والصوم حصن يمنع من الوقوع في كل إثم وجريمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 183)؛ وهكذا فكل أمر ونهي شرعي ليس فيه إلا توجيه العباد لتحسين صلتهم بالله تعالى لتحسين صلتهم فيما بينهم.
ثانيا العناية بالفئات الضعيفة في المجتمع وضمان حقوقها في العيش الكريم صحةً وتعليماً وكسباً وكرامةً، فهذه الفئات لا يكثر فيها الإجرام السلوكي إلا بسبب الجهل بالدين وضعف التلقي عن الله تعالى والتربية على توجيهاته الحكيمة، فلو عني بهذه الفئات لكان في ذلك أعظم كسب للأمة لأنه لا استثمار أفضل من إعداد الإنسان الصالح النقي التقي؛ إذ به وحده لا بغيره يحصل للأمة الأمن والرقي.
ثالثا العناية بالمعادن النفيسة من أبناء الأمة وخيارها في العلم والذكاء والخبرة بإعدادها إعدادا تربويا سليما يجعل منها نجوما في العطاء والبناء النافع للأمة، ويؤهلها لتكون قدوة صالحة ناجحة في حفظ مقومات الأمة وصيانتها والتفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي والإنساني.
لذلك فلا سبيل للحد من كل أنواع الجرائم إلا بالعناية بالفئات الضعيفة القابلة لكل انحراف، والعناية بالأخيار من أبناء الأمة فهم الثروة الحقيقية، والعناية بالمشروع التربوي الإيماني المناسب لكل الفئات والمستويات، وفق هدايات منهاج التربية القرآنية والنبوية المنتجة لنموذج عبد الله الصالح السوي القوي العالم المهتدي بهدى الله تعالى بعلم وبصيرة.
وأخيرا فحفظ أبنائنا من الوقوع في الجريمة، وتحقيق الأمن الشامل للأمة أمانة في عنق كل مسؤول استرعاه الله تعالى على عباده كلٌّ في مجاله وفي حدود قدراته وما مُكِّن له فيه بالعدل والإنصاف والحكمة؛ فهو صمام الأمان من كل بلاء والجالب لكل خير وهناء؛ وصدق رسول الله حينما قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أوزارهم شَيْئًا» (صحيح مسلم).