(رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم/599).
توطئة للحديث:
أحاديث الرسول ، الصحيحة ثاني مصدر من مصادر التشريع الإسلامي التي وجب الإيمان بها، وبما جاءت به من نواهٍ وأوامر، وأخبار…..، فذلك من مقتضيات الإيمان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(النساء: 58). فهي مبينة وموضحة ومكملة للقرآن الكريم، قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(النجم: 3 – 4).
وتزداد أهمية هذا الإيمان مع توالي الهجمات عليها -الأحاديث-، ومحاولة النيل من مصداقيتها بالطعن في من انتدب حياته وماله في سبيل جمعها وتصحيحها، وقصدهم من ذلك النيل من هذه الأحاديث لا ممن جمعها ومن هؤلاء الذين تعرضوا عبر التاريخ الإسلامي لهذه الهجمة: الإمام البخاري رحمه الله وجزاه الله خيرا عن هذه الأمة.
فلا يكاد يمر زمن إلا ويخرج علينا من يطعن فيما قام به البخاري رحمه الله من مجهود جبار في تنقيح الحديث الشريف من كل شائبة، والغرض من ذلك ليس البخاري وإنما الطعن في حديث رسول الله . والمس بمصداقيته، وهو حدث تكرر عبر الزمن ولم ينل من صحيح البخاري، وإنما ظل الصحيح صحيحا تتوارثه الأجيال، أما شبهات الحاقدين فانتهت لمزبلة التاريخ.
الحديث الذي بين أيدينا مروي عن أبي داوود يخبر فيه رسول الله ، أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، من يجدد لها دينها، ومن هذا التجديد ما قام به البخاري، رحمه الله تعالى، من جمع وتصحيح وضبط لحديث رسول الله ، وفق منهجية صارمة تتوخى تنقيته من كل الزوائد وإزالة المدسوس فيه.
فما قام به البخاري يدخل في معنى التجديد للدين.
سنعيش بحول الله وقوته مع مضامين الحديث من خلال شرحه والوقوف على بعض معانيه.
لغة الحديث:
بعثه يبعثه بعثا: أرسله وحد، وبعث به: أرسله مع غيره.
الأمة:للأمة معاني كثيرة في القرآن لكن المقصود في الحديث: الجماعة المتفقة على دين واحد. والآيات التي تثبت ذلك كثيرة منها: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً(المائدة: 50). وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ (الأعراف: 32). كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ (الأنعام: 109). وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم (الحج: 32).
يجدد:من جدد يجدد، فهو مجدد، والمفعول مجدد(للمتعدي)
والجدّ إِنما هو الاجتهاد في العمل (اللسان) فكأن المجدد يجتهد ويبذل أقصى الوسع في العمل للإتيان بالجديد.
والجَديدُ: ما لا عهد لك به، ولذلك وُصِف الموت بالجَديد (اللسان).
شرح الحديث:
فقول النبي : «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ».
هذه منة وتكرم من الله تعالى على هذه الأمة أن يبعث فيها من يجدد لها دينها أي تدينها الذي أصابه الانحراف فيزيل عنه كل ما علق به من شوائب نتيجة الفهوم الخاطئة والتأويلات المنحرفة التي تراكمت خلال مرحلة معينة من تاريخ الأمة الإسلامية.
وفي الحديث دليل على أن هذا الهُدَى سيصيبه تحريف وتشويه لمضامينه وأحكامه… وسيترتب عن ذلك تَغَيُّرٌ وتبدلٌ في أحوالٍ العباد من الصلاح إلى الفساد، فتكون الحاجة ملحة لمن يحيي التدين الصحيح الخالص الذي نزل غضا طريا على رسول الله خلال ثلاثة وعشرين عاما، فهما و تطبيقا، أمرا ضروريا. والدكتور “الصلابي” في كتابه (الدولة الأموية) يبين أن كلمة (البعث) في الحديث تدل على الإرسال والإظهار، فالمقصود من الحديث أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية واشتهر بالصلاح وعم نفعه.
فالحكم على المجدد من خلال أعماله، ومن خلال الأثر الذي يخلفه عمله في الخلق: من نقلهم من حالة الفساد إلى حالة الصلاح.
ويسجل التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة من هؤلاء، الذين كان لهم الأثر البالغ في إحياء التدين الرشيد في الأمة، وبعثه من جديد، وتتعدد هذه النماذج بين عالم وفقيه ومحدث وحاكم ومرب… وكل واحد من هؤلاء كان له الأثر البارز في صلاح بيئته. ومن هؤلاء:
الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وصفه الحافظ الذهبي، فقال: “كان ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورع، وروى أحاديث كثيرة، وكان إمام عدل، رحمه الله ورضي عنه”. (سير أعلام النبلاء 5/ 114).
والإمام المجدد أحمد بن حنبل على رأس المائة الثانية، قال فيه الإمام الشافعي: “خرجت من بغداد فما خلّفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقَهَ من ابن حنبل”(سير أعلام النبلاء).
فأجمع أغلب العلماء على هذين العلمين في التجديد خلال القرنين الأول والثاني، واختلفوا في تحديد من يليهم في القرون الباقية، وقد عقب الإمام ابن كثير على هذا الأمر بقوله: “وقد ادعى كل قوم في إمامهم، أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر، واللَّه أعلم، أنه يعم حملة العلم من كل طائفة، وكل صنف من أصناف العلماء، من “مفسرين”، “ومحدثين”، “وفقهاء، “نحاة” “ولغويين”، إلى غير ذلك من الأصناف.” (كشف الخفاء 1/283).
وهكذا فالحديث يعم حامل العلم العامل به المستوفي لشروط حددها العلماء فيما يلي:
نبوغه وتفوقه العلمي، وأن يكون ذا قدم راسخة في العلوم، وليس كثرة هذه العلوم فقط إنما يكون قادراً على نقدها وتصحيحها. وبجانب أن يكون المجدد عالماً فقد ضم بعض العلماء أن يكون المجدد مجتهداً.
ولا بد أن يضطلع بعمل من الأعمال التي تدخل تحت التجديد، ومن أهم ما في ذلك أن يقوم بتجلية الإسلام مما به من الانحرافات والشوائب الدخيلة على مفاهيمه الأصيلة، وإعادته إلى “القرآن الكريم” و”السنة النبوية”، ببث الآراء وإفشاء العلم بالتدريس وتأليف الكتب في المجال الفكري، وفي المجال العملي بإصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم.
وأيضاً أن يعم علمه ونفعه أهل عصره، وأن تكون مؤلفاته وآثاره مشهورة، وجهوده الإصلاحية ذات تأثير، ومن المعايير لمعرفة تأثير المجدد ما يتركه خلفه من أصحاب وتلاميذ ينشرون آراءه، ويوسعون دائرة الانتفاع بمصنفاته وأعماله الإصلاحية، وأن لا ينتهي أثره بنهاية حياته.
وهذه الشروط مستوفية في الإمام البخاري رحمه الله، ولذلك فقد استحق أن يكون مجدد لدين هذه الأمة كما في الحديث.
أما قول النبي : «عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ»
اختلف في معنى رأس المائة المذكور في الحديث هل يراد به بداية المائة أو نهايتها، وهل يعتبر المبدأ من تاريخ المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة لكن الرأي الأغلب أن المراد برأس المائة هو أواخر كل مئة وأوائل المئة التي تليها.
والمستفاد من هذا التحديد -والله أعلم- هو أن الله تعالى لن يدع هذ الأمة دون أن يهيئ لها من يوقظها من نومها وسباتها، ويجمع شملها وشتاتها، لتتحمل مسؤوليتها من جديد في الشهادة على الناس.
وهذا المعنى يؤكد عليه الحديث الشريف في محاولة لبعث الأمل في النفوس ومقاومة اليأس الذي قد يصيب الأمة في كل مرحلة، خصوصا مع ازدياد هجمة الكفر على ديار المسلمين واغتصاب أراضيهم، وتفوقه المادي عليهم.
وقد وردت أحاديث شريفة تؤكد هي الأخرى هذا المعنى، من ذلك، قوله : «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء». “قالوا: يا رسول الله من الغرباء؟” قال: «الذين إذا فسد الناس صلحوا». (رواه مسلم).
ففى هذا الحديث، يصف النبي الغرباء بقوله: «الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» فهؤلاء الغرباء ليسوا يائسين ولا سلبيين في مجتمعاتهم، بل يصلحون ما أفسد الناس من سنن الإسلام، ويحيون ما مات من آدابه وأخلاقه.
وقوله : «من يجدد لها دينها».
كما قلنا سابقا فإن الحديث الشريف يرسل أملا ووعدا من الله تعالى على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها، وفي هذا الوعد تأكيد على انتصار هذا الدين على باقي الجاهليات.
و قد أختلف العلماء في تحديد عدد المجددين وهل يكون واحداً أو أكثر، ولكن الظاهر من نص الحديث أن المجدد قد يكون واحدا أو أكثر، لأن لفظ “من يجدد الدين” لا يحدد عددا بعينه، فقد يكون المجدد واحدا أو أكثر، وقد يجدد الدين بجهاد أو دعوة.
ولذلك فإن الكثير من العلماء المحققين، منهم الحافظ “ابن حجر العسقلاني” في (فتح الباري)والحافظ “ابن كثير” في (دلائل النبوة) والحافظ “ابن الأثير” في (جامع الأصول) قد أشاروا إلى إمكانية حمل الحديث على عمومه من كون المجدد في كل عصر مجموعة من العلماء والقادة المصلحين الربانيين، ينفون عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فما أشار إليه هؤلاء الفضلاء -العلماء المحققون- يدخل في إطار حماية هذا الدين وصيانته، وهي درجة مهمة في طريق عزة هذا الدين وسيادته، تحتاج إلى درجات أخرى ليصير مهيمنا وحاكما في الأرض من ذلك إعداد من يتولى حمل الدين بإحلال روح الدين الذي هو الوحي في كيانه (إحلاله حفظا وفهما وقدرة على التنزيل على الأحداث والوقائع).
فلا يتصور تجديد بدون إيجاد هذه القاعدة الصلبة التي تحمل هذا الدين، وتحييه في النفوس، فتتكاثف جهودها وتتعاون وتكامل، فيبعث الله تعالى من بين هؤلاء من يكون سببا في إخراج الأمة من الوهن الذي تعيش فيه، وهذه حقيقة البعث في الحديث والله أعلم.
وسواء كان المجدد فردا أو جماعة فإن مسؤوليته (ها) تزداد حجما وخطورة عندما تتكالب قوى الشر وتتعاون على النيل من هذا الدين كما هو واقع الأمة اليوم، فيصبح المجدد صاحب الهمة العالية: مجاهدا في الميدان مستعينا بالله أولا ومسلحا بالعلم ثانيا لصد كل عدوان يستهدف الأمة فيصدق عليه قول الرسول : عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ, كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا, فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي» (رواه مسلم). فيكون صمام أمانها ضد كل الهجمات. وقد قيل: فرد ذو همة، يحيي أمة!
بعض المستفادات من الحديث:
بعث المجدد لهذه الأمة سواء كان فردا أو جماعة منة وتكرم وفضل من الله تعالى لهذه الأمة.
الحديث يحيي الأمل في النفوس لعودة العزة لهذا الدين.
ثغور الإسلام متعددة إيجاد القائمين عليها سبيل لعودة العزة لهذا الدين.
ذ. محمد بوزين