طاقة المرء لا تحمله في ساعات، على تحمّل ما كان يظن أنّه يستطيع تحمّله، قد تخونه التّعابير فيصمت، ويقهره الأسى فيميل إلى الحزن، ويخذله المحيطون به فيكفر بكل العلاقات التي ظن يوما أنّها مستمرة، ومع هذا تستمرّ الحياة بكل تداعيات الآمال التي يحملها المتفائلون على عاتقهم جرعات دواء لأسى الداخل الإنساني الذي إذا سكن في القلوب الضعيفة أفناها، وإذا خالجها ألبسها من عباءات القلق والشك ما يمكن أن يجعلها زاهدة في الحياة رافضة لوجودها، روحا ترهقها الزفرات والآهات والعذابات، ولكن ما نقلته وسائل الإعلام المرئية والمسموعة حول ما يجري لمسلمي الروهينجا في ميانمار هو فوق الوصف وفوق ما تتصوره الوحوش من البشر، ذبح، تعذيب، تقتيل، تشريد إخراج من الأوطان لتصفية عرق، ذنبه في الوجود أنّه مسلم.
أطفال يحرّقون بالآلاف ويُرمون في الأخاديد، أمهات تشوى فلذات أكبادهن، وتشوين دون وازع من إنسانية أو دين، آباء يقتلّون بلا رحمة أو ضمير ومع كل ما جرى ويجري، هناك من الأحياء من هم صامدون، صابرون متشبثون بدينهم، مستسلمون لقدرهم، ثابتون بالصورة التي جعلتني أتساءل في يقين أيّ قوة صامدة تلك التي يملكونها.
قاربت في عذابهم بينهم وبين الرجال الذين ساندوا سيدنا محمدا في دعوته كي تنتصر وتمتدّ في الأمصار، فوجدت نفس الروح تلبسهم، إلى درجة الانتشاء بالموت دون اكتراث مهين، المهم الإبقاء على وجودهم العقدي الذي يتحرك بصرخاتهم في كل العوالم ليؤكد حقيقة غائبة تمثّلها قول الني وهي أنّ هذا الدين إذا حورب اشتدّ، وإذا ترك امتدّ، وهو ثابت ويزيد مع كل صرخة صادقة يقبرها العابثون أو يحاربونها دون اكتراث لإنسانية تنتشي بانتمائها لعقيدتها، وتأمل أن تعيش بعيدا عن أيّ إرهاب عرقي يعطي لأهل المنطقة شرعية تصفية من لا ينتمون للاعتقادات السائدة والبائدة أيضا كما هو حاصل للروهينجا.
وقفت بقلمي طويلا حول هذا الموضوع ووجدتني أنساق للكتابة بلا استئذان وبحب كبير لهذه الأقلية المسلمة التي تمثّلت القوة الصامدة على قول الدكتور نجيب الكيلاني طاقة روحية توزّعت في الأمصار روحا جديدة ترسم لنا النّماذج الصامدة حالة وجود استثنائي يختزل تناغمه مع الأكوان في ذلك الإحساس الكبير بقيمة الإيمان في الحياة، برغم الأسى والألم والذي يترجم عن عظمة هذا الدين في تنمية شعور الاستعلاء بالعقيدة كقيمة مضافة تصنع الفارق في فهمنا لأبعاد الحياة وأي ّ أبعاد.
هذا الاستعلاء الذي تكاد جذوته تنطفئ في المشهد العربي عموما مما جعل الأمم الغيرية تحقّر وجودنا بل تكاد تلغيه لتصنع لنا مشهدا بائسا يصورنا على أنّنا قطيع غنم يحسن لراعيها أن يرفسها بالقدم. لأنّها تدرك في القرارات أنّ الذي صنع مجدنا القديم هو هذا العمق الغائب في تفاصيل حياتنا اليوم و الذي تعني عودته عودة ذاتنا الحضارية التي تعاني التشظي والمتاه إلى حد التلاشي نلمسه أكثر ما نلمسه أيضا ونحن نقرأ نصوصا وروايات لأقلام عربية، لا تتوانى في تصوير المشهد العربي أيضا على أنّه زير نساء تحركه الغرائز والعلاقات المشبوهة والمحرمة وتلبسه البلادة واللانتماء وهو يحكي مواجد الرجل العربي الأخير.
مما يستدعي وقفة متئدة أمام هذا الواقع المخزي بكل صوره، ويستدعي أيضا الاشتغال على البعد العقدي كوجه أوّل لعودة الوجه العربي المشرّف والمشرق إلى ساحة الوجود الإنساني، حيث تصاغ من هذا البعد، القِيَمُ الكفيلة باستنبات الإنسان العربي الجديد الذي يؤمن بأنّ الطاقة الصامدة هي من تداعيات هذا البعد الذي يؤكد لنا أنّ هذا الدّين ثابت ويزيد.
دة. ليلى لعوير