في لقاء ودي مع بعض الأصدقاء ممن أثقلتهم السنون، وغلفتهم الهموم ، وحنكتهم أعباء العمل في القطاع التربوي طرح أحدهم سؤالا عاما:
لماذا يكثر الحديث عن تربية الصغار ولا يتحدث عن تربية الكبار إلا نادرا؟
ألا ترون أن تربية الصغار تتطلب أساسا أن يكون الكبار في أرقى مستويات التربية؟
قال الأكبر سنا:
المثل المغربي يقول:” المربي من عند ربي “. وأنا أعتقد أن هذا المثل ينطبق على عدد غير قليل من الحالات التي أعرفها؛ فهناك أبناء لظلمة عتاة كانوا صالحين، وهناك أيتام أو أطفال متخلى عنهم تربوا في مؤسسات خيرية فاستقلوا بأنفسهم، وكانوا على مستوى عال من الاستقامة والصلاح، والعكس صحيح؛ فهناك من أبناء الأسر المحافظة، أو الأسر ذات العلم والنسب والجاه من خلعوا رداء بيئتهم ولبسوا ظاهرا وباطنا آخر صيحات الشرق والغرب في التحرر من كل القيود، فلا هم لهم إلا إشباع رغباتهم وتأليه أنانيتهم ..
قال الأصغر سنا:
المثل المستشهد به حسب رأيي يفهم منه أن الله عز وجل أعلم بعبده ابتداء وانتهاء؛ فهو سبحانه يعلم أن فلانا سيكون ابن فلان وفلانة، وأنه سيتلقى تربية على نحو ما، وسيكون في مختلف مراحل حياته على صفات كذا وكذا..ولكن البيئة التي ينشأ فيها الطفل، والشروط التي يوفرها له محيطه الصغير والكبير هو الذي يؤثر فيه استقامة وصلاحا، أو فسادا وانحرافا، مع العلم أن الصلاح والفساد نسبي ومتغير مع مسيرة العمر.ولذا جاء في الحديث الشريف:” كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..”. رواه مسلم
وبناء على ذلك فصلاح ابن الظالم ناتج عن أن تربيته كانت غائبة عن والده الغارق في بحر
الحياة اللاهي عن متابعة ما ينشأ عليه ولده، وانحراف ابن العالم والشريف والحسيب ناتج عن اغترار والده بما يحلى به من نعوت وأوصاف السيادة والريادة، واعتقاده بأن الولد يشبه أباه، ولن يحيد عن جذوره وسمعة أسرته..
قال أوسطهم سنا:
التربية علم اكتساب السلوك الذي يوصف حسب منطلقاته العقدية، فالمسلم ينبغي أن يربي أبناءه وفق عقيدته الإسلامية، ومن لا عقيدة له لا يهمه إلا أن يعيش حياته بحرية كاملة، لا تقيده إلا العادات المترسخة في مجتمعه..
ومجتمعنا الحالي حريص أشد الحرص على تحقيق أهدافه المادية من متاع الحياة بالمال والولد، يبحث أحدنا في كل وقت عن مصادر زيادة الدخل، وقد لا يتحرج عن ارتكاب المحظورات لبلوغ ذلك، وكلما ازداد دخله زاد بغيه وظلمه؛ فتوسع في نفقة الكماليات، وانغمس في الشهوات التي لا حدود لها…ومن ضاقت عليه السبل التجأ إلى فن التسول أو علم النصب والاحتيال، وهذا عالم لا يحيط بفضاءاته ومغاراته المتخصصون، فكيف بغيرهم؟
إن الآباء الذين يدخلون في هذا التصنيف أعلاه يريدون أن يكون مستقبل أبنائهم خيرا من واقعهم؛ لأنهم يعترفون في قرارة أنفسهم أنهم ليسوا على الطريق السوي؛ ولذلك يبذلون أقصى جهودهم المادية ليوفروا لأبنائهم مسيرة تعليمية ناجحة في مؤسسات متميزة، ولكن التربية تكاد تكون غائبة، فالمؤسسات التعليمية لا تتدخل في السلوك إلا نادرا، وذلك حين يكون المستهدف من السلوك السيئ بعض رموز المؤسسة، أو التنقيص من سمعتها في الوسط التعليمي. وما يسمع وما يرى في فضاءات المؤسسات ومحيطها الخارجي من أقوال وأفعال أغلب المتعلمين يؤكد أننا نعلم ما ينسى، ونترك التربية للأهواء والأجواء والأضواء.
ويعتقد كثير من الآباء أن المؤسسة التعليمية تنوب عنهم في التعليم والتربية، ولكن الحقيقة غير ذلك.
إن الأطفال يتلقون معارف وخبرات في محيطهم الخارجي والداخلي أحيانا، فيها الخبيث والطيب، وعلى الأسرة أن تغربل هذه المعارف والخبرات ، وان توجه أبناءها إلى السلوك المرغوب فيه، وتقنعهم بصوابه، وتحثهم على اكتسابه، وتراقبهم عن بعد- إلا عند الضرورة- لئلا تقع في فخ احتيال الصغار..فكم من آباء خدعوا في سلوك أبنائهم، ولم يصدقوا حقيقة ما اكتشف فيهم من أفعال مقيتة.
ومراد ذلك حسب رأيي أن منهج التربية – إن كان هناك منهج – في كثير من الأسر مختلف أشد الاختلاف، بل قد يكون متناقضا عن قصد أو دون قصد، فالأب مثلا قاس عنيف، والأم غاية في الرحمة والود، الأب يعاقب، والأم تعفو، والكثير من سلوك الأبناء لا يعلم عنه الآباء شيئا، والأم وحدها غالبا هي مستودع الأسرار، هي التي تدير تلك المساحات الشاسعة من خفايا وبلايا الأبناء..
وإذا لم يعالج الآباء هذه المعضلة، معضلة المنهج، وذلك بوضع منهج خاص لتربية أبنائهم
يتفقون على بنوده وآليات تطبيقه وتقويمه، فلا نطمع أن يكون لنا خلف أحسن منا، يكمل النقص الذي فينا، ويسمو بنفسه ومجتمعه إلى ما فيه الخير والصلاح في الآخرة والأولى.
ذ. محمد المرنيسي