عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي أنه مر بقبرين يعذبان، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول…….»وروي «لا يستنزه من البول»(1)
تقديم:
من خلال هذا الحديث يمكن أن نستقي أن الإسلام يدعو إلى التنزه من البول، باعتباره سببا في عذاب العبد يوم يوضع في قبره، كما أكد الإسلام على النظافة والطهارة، ونهى عن الدرن والقذارة، وأرشد إلى آداب قضاء الحاجة، وسن له أحكام الاستطابة، وأمربالتحرز من النجاسة والاستخفاف بها والتهاون بشأنها.
النظافة في الإسلام نوعان، حسية ومعنوية:
وعليه، فإن النظافة في الإسلام، تعني: حرص المسلم على نقاوة بدنه وطعامه وشرابه، وحسن صورته وهيئته، في ملبسه وأثاثه، نقي الوعاء، وجمال مسكنه وساحته، ومواقع نظره وشمسه، في محيطه وحيه، في مدينته وقريته، وأماكن اجتماعه بأحبابه وأصحابه، نظيفا في حله وترحاله، محافظا على نظافة بيته ومجتمعه، بعيدا عن الدنس والدرن، فتلكم هي النظافة الحسية.
بل إن النظافة في الإسلام قبل هذا وذاك، هي أن يحرص الإنسان المسلم على نقاء عقله، وصفاء نفسه وسريرته، بعيدا كل البعد عن الأحقاد والموبقات، مع استقامة أعضائه وجوارحه، وذلك باجتنابه الفواحش والمنكرات، والرذائل والموبقات، طاهر العقل والقلب، في المخبر والمظهر، صحيح النية، خالص الإخاء، محمود الوفاء، ممتثلا أمر ربه، بعيدا عن نواهيه، فأنعِم بها وأكرِم من نظافة، وتلك هي النظافة المعنوية.
النظافة في الإسلام علامة من علامات الصدق والإيمان:
نعم، إن النظافة في الإسلام، علامة من علامات الإيمان، والمحافظة عليها من شيم الأخيار، وفضيلة في كل زمان ومكان، بل مظهر حضاري يمنح الأمة الرقي والازدهار، بها يضحى المجتمع نقيا ويرقى إلى الأمام، لذا فالنظافة لازمة ومطلوبة ينبغي تجسيدها في مرافق الحياة كلها، وهذا مقصد من مقاصد البيئة في الشريعة الإسلامية.
من هنا نقول: إن نظافة الثوب والبدن رغب فيها الشرع وحث عليها، بل هي مطلوبة عقلا وعرفا، وها هي وصية رسول الله لبعض صحابته -رضوان الله عليهم- حيث يقول : «إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأحسنوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش»(2).
كما أمر الشرع المسلم بأن يغسل أعضاء مخصوصة بكيفية مخصوصة، باعتبارها معرضة للغبر والدنس، قال تعالى: ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين(المائدة: 7). كما أن من فرائض الوضوء “الدلك” عند الفقهاء المالكية، لأن غسل العضو ونظافته لا تتم إلا بالدلك، وفي التأهب لصلاة الجمعة وصلاة العيدين، حث الشرع على الاغتسال، وارتداء أحسن الثياب، ومس الطيب، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد(الأعراف: 29) فهذا خطاب عام لكل مكلف حينما يتهيأ لاستجابة النداء، أن يلبس من الثياب أجودها، لأنه مقبل على الله تعالى بقلبه ووجهه، فالله جميل يحب الجمال، وعلى وجه الخصوص حينما يلج الإنسان بيتا من بيوت الله، فما أجمل المكان! وما أحلى تلك الفترة من الزمان! فجمال الهيئة وحسن الصورة مرغب فيه من خلال كتاب ربنا، وسنة نبينا، بل هو من صميم شريعتنا.
نظافة الثوب والبدن من صميم الشريعة وفطرة الأنبياء وسنتهم:
إن ارتداء الملابس النظيفة، وجمال الهيئة، تعبر بلسان حال صاحبها للناس، حمده وشكره لله على نعمه الظاهرة والباطنة، قال : «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»(3) لذا فالمؤمن دائما خفيف الظل، نظيف الثياب، والقلب واللسان، فقد روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، فقال «إن الله جميل يحب الجمال»(4). فالله يحب منا التجمل في الهيئة، شكلا ومضمونا، إظهارا لنعمة الله تعالى، وتحدثا بكرمه وإحسانه.وعن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه، قال: رآني رسول الله وعليَّ أطمار(5)، فقال: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أي المال؟» قلت: قد آتاني الله تعالى من الشاء والإبل، قال: «فَلْتُرَ نعمة الله وكرامته عليك»(6) إذن فهذا الرجل رآه الرسول وعليه ثياب مهترئة، فسأله عن حاله، وأرشده إلى إصلاح هيئته، إظهارا لنعمة الله عليه.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أتانا رسول الله فرأى رجلا ثائر الرأس، فقال: «أما يجد هذا ما يسكن به شعره؟» ورأى رجلا وسخ الثياب، فقال: «أما يجد هذا ما ينقي به ثيابه؟»(7). فهذا استفهام منه وإنكار على هذين الرجلين، لإصلاح حالهما بإكرام الشعر ونظافة الثوب، فهو لم يخاطبهما لئلا يكسر خاطرهما، فهذا خطاب عام لا يختص به شخص دون آخر، وهذا أسلوب من أساليب خطاب الحبيب المصطفى .
لذا دعانا الشرع الحنيف إلى الاهتمام بالبدن وتنقيته وتنظيفه، من ذلك تقليم الأظافر، وقص الشارب، وإزالة شعر العانة والإبطين، وغسل شعر الرأس، فكل هذه الأعمال من الفطرة.
عن أبي هريرة عن النبي قال: «الفطرة خمس -أو خمس من الفطرة- الختان، والاستحداد، (هو حلق العانة سمي استحدادا لاستعمال الحديدة)، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب»(8).
كما أمر بتغطية الطعام والشراب، عن جابر عن رسول الله قال: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يَحُلُّ سِقاء، ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء…….»(9) فكل النصوص الحديثية التي مرت معنا جميعها تهدف إلى نظافة ثوب المسلم وبدنه.
الإسلام ونظافة البيئة والمحيط:
حرصا منه على نظافة المحيط، نهى عن رمي الأوساخ والنجاسات والقاذورات، في الماء الراكد، ومجاري المياه، وفي ظل الناس وأماكن تجمعهم، وفي طرقاتهم، كما أمر بنظافة البيوت وأماكن الجلوس ونهانا عن التشبه باليهود.عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعةِ الطريق، والظلّ»(10). ولعل من أهم المقاصد التربوية المستفادة من الحديث: جمال الرحل، وجمال المسكن، وجمال الحي، وجمال المدينة، وجمال المحيط، بالإضافة إلى تربية الذوق والإحساس.
فلا يليق بالمؤمن العاقل أن يضع الأذى في طرقات المسلمين، وظلهم، وأماكن تجمعهم، وخلف جدران مساكنهم ومؤسساتهم، كالمدارس والمستشفيات، إما متبرزا، أو ملقيا للأزبال، جالبا للذباب والبعوض والهوام، مخالفا أمره وهو القائل للسائل الذي قال له يا رسول الله، دلني على عمل أنتفع به، فقال : «نَحِّ الأذى عن طريق المسلمين»(11).
إذن، فالواجب يفرض علينا إماطة الأذى، كيف ما كان نوعه، باعتبارها جالبة للأجر والثواب، بل إن إماطة الأذى من شعب الإيمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون شعبة- أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»(12). ومعنى إماطة الأذى، أي تنحيته وإبعاده، والمراد بالأذى كل ما يؤذي المارة في الطريق، من حجر أو مدر أو شوك أو غيره.
وختاما يمكن القول: ما أحوجنا إلى الهُدَى النبوي الذي يضيء طريق الناس، ويهديهم إلى طريق الصواب، فما أجمل الشريعة الإسلامية الغراء وهي تحث الطهارة والنظافة، وجمال الصورة والهيئة، وجمال المسكن والساحة، والمدينة والقرية، ونقاوة البدن والطعام والشراب، وصفاء السيرة والسريرة، ورونق المحيط، وجمال الطبيعة، كل هذا من مظاهر الحضارة الإسلامية وأسباب الرقي الإنساني، التي تجعل الأمة ترقى وتلحق بالركب الحضاري.
ذ. علي السباع
————————-
1 – صحيح البخاري: باب الجريد على القبر، ج 2 ص 95.
2 – سنن أبي داود: باب ما جاء في إسبال الإزار، ج 4 ص 57.
3 – سنن أبي داود: باب إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. ج 5 ص 123.
4 – صحيح مسلم : باب تحريم الكبر وبيانه، ج 1 ص 93.
5 – أطمار: الثوب الخَلَق البالي، أثواب مهترئة.
6 – السنن الكبرى للبيهقي: باب ما حرم المشركون على أنفسهم. ج 10 ص 16.
7 – المستدرك على الصحيحين : للحاكم، ج 4، ص 206.
8 – صحيح مسلم: باب خصال الفطرة، ج 1 ص 221.
9 – صحيح مسلم : باب الأمر بتغطية الإناء، ج 3 ص 1594.
10 – السنن الكبرى للبيهقي: باب النهي عن التخلي في طريق الناس وظلهم، ج 1 ص 158.
11 – صحيح ابن حبان: باب ذكر استحباب المرء أن يميط عن الطريق، ج 2، ص 298.
12 – صحيح مسلم : باب شعب الإيمان، ج 1 ص 63.