عن أبي نُجَيْد حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: « نَعَمْ »، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: « نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ »، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: « قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ »، قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: « نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا »، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا »، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ »، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ». (بهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما).
توطئة للحديث:
الحديث النبوي الشريف يتحدث عن الخير الذي جاءنا به الرسول ، وهو الهداية للإسلام، فقد تلقى ، أول هذا الخير من الله تعالى في أعلى نقطة من مكة بجبل حراء بواسطة أمين الوحي جبريل، واستمر نزول هذا الخير طيلة حياته، ، واكتمل بآخر آية نزلت عليه : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» فبكى أبو بكر الصديق عند سماعه لهذه الآية..فقالوا له: ما يبكيك يا أبا بكر، إنها آية مثل كل آية نزلت على رسول . فقال : هذا نعي رسول الله .
وقبل الوفاه بـتسعة أيام نزلت آخر آية من القرآن وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ واكتمل الخير.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم حريصين على تمثل هذا الخير في أفعالهم وتصرفاتهم، وكان بعضهم يخشى على هذا الخير من الشر، وقد تحدث رسول الله ، عن أثر هذا الخير لصحابته في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام بقوله فيما روى البخاري (2652) ، ومسلم (2533) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ُ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ.
وإنما كان قرنه خير الناس لأنهم آمنوا به حين كفر الناس وصدقوه حين كذبوه ونصروه حين خذلوه وجاهدوا وآووا.
قال الكشاف: كل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم.
وقال الزجاج: الذي عندي أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم سواء قلت السنون أو كثرت.
فقرن الرسول ، مرحلته الدعوية، وخيريتها لا تعدلها خيرية القرون اللاحقة،
ومدار الخيرية على قرب أو بعد المناهج الدعوية اللاحقة من التجربة الأم ، تجربة خير القرون،
فالحديث يجلي أمر هذا الخير ويبين مراحل تقلبه. سنحاول بتوفيق من الله تبيان هذا الأمر من خلال شرح الحديث.
من معاني الحديث:
فقول الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان: “كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني”.
حذيفة بن اليمان صحابي جليل كانت له مكانة خاصة عند رسول الله ، فهو كاتم سره، ومن يظفر بهذه المهمة يكون في جعبته أسرار لم تتيسر لغيره من الصحابة، ومن هذه الأسرار معرفته بأسماء المنافقين التي أسر له بها النبي .
ومن معرفة الصحابي بهذا الدين وحرصه عليه، تخوف أن يصيبه شر فيؤثر في تدينه، فقد تلقى هو والصحابة رضوان الله عليهم من النبي ، الهدى والوحي غضا طريا لا تشوبه شوائب فكرية أو تصورات تشوه معناه، كما لم يكن للأهواء ولا لحظ النفس ولا للشيطان دخل في تأويل أو تغيير معناه. وهم الذين عرفوا بالبيان والفصاحة.
فكان تخوفهم منطقي وواقعي، وله مشروعيته
أمام هذا التخوف المشروع سأل رسول الله : “فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر”.
قال ابن حجر في شرح الحديث: “يشِير إِلَى مَا كَانَ قَبْل الْإِسْلَام مِنْ الْكُفْر وَقَتْل بَعْضهمْ بَعْضًا وَنَهْب بَعْضهمْ بَعْضًا وَإِتْيَان الْفَوَاحِش”.
وقوله : “فجاءنا الله بهذا الخير”
(يَعْنِي الْإِيمَان وَالْأَمْن وَصَلَاح الْحَال وَاجْتِنَاب الْفَوَاحِش، زَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ حُذَيْفَة فَنَحْنُ فِيهِ) ابن حجر.
أما سؤال الصحابي :”فهل بعد هذا الخير من شر؟”
أي هل يمكن أن يصيب المسلمين بعد أن استقاموا على الهدى والصلاح زيغ وضلال
فقال : “نعم”
يشهد لقوله ما وقع مباشرة بعد وفاته من ارتداد بعض القبائل عن السلام، فقد دخلت القبائل بعد فتح مكة في الإسلام أفواجا ولم يكن إسلامها كإسلام القاعدة الصلبة الأولى من الصحابة التي عانت وقدمت الكثير في سبيل إقامة الدين في الأرض، لكن بوفاته ، أعلنت بعض هذه القبائل خروجها عن الإسلام وعصيانها لأمر الله ورسوله من خلال عصيان خليفته، وهذا ما جعل خليفة رسول الله أبو بكر الصديق ، يعلن الجهاد في حق من فرق بين الصلاة والزكاة من خلال حروب الردة.
فاستطرد حذيفة بقوله: “فهل بعد ذلك الشر من خير؟”
فأجاب : «نعم، وفيه دخن».
فقال : “وما دخنه يا رسول الله؟”
فَبَيَّنَ معنى الدخن بقوله: “قوم يهدون بغير هدى تعرف منهم وتنكر”.
فاعتبر الخيرية في هذا الهدي رغم الدخن الذي أصابه، على اعتبار أن الصحابة يمكن أن يعرفوا من هؤلاء القوم وينكروا، وتصورهم وفهمهم للإسلام لا يمكن أن يؤثر عليه ادعاء هؤلاء، فهم مازالوا قريبين من المرحلة الأولى: قرن رسول الله .
وفي قول النبي : «تعرف منهم وتنكر» دليل على أن هاتين المرحلتين في حياة الصحابة، فالخطاب موجه لحذيفة بن اليمان ، فهو من سيعرف منهم وينكر.
وهي مرحلة ستأتي بعد أن يتفرق المسلمون إلى مذاهب وفرق كل يدعي أنه على الحق، وكل سيتخذ له إماما يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وسيتضخم اجتهاد هؤلاء وأولئك على حساب الوحي (كتاب الله وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم). وهو انحراف سيتسع منحاه مع الزمن ليصبح من العسير تقويمه أو تقريبه من التجربة الأصل.
ثم استطرد الصحابي الجليل مرة ثانية في سؤاله:” فهل بعد ذلك الخير من شر؟
فقال : «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها».
هي مرحلة ستأتي لاحقا يكثر فيها اللهط والهرج في دين الله : دعاة على أبواب جهنم يخرجون في هذه الأمة يدعون إلى خلاف ما جاء به الرسول ، فمنهم من يدعو إلى الكفر بالله تعالى والإلحاد جهارا.
ومنهم من يدعو إلى أنواع الفواحش كالزنا وشرب الخمر والمخدرات وعقوق الوالدين والخروج عن طاعة الأزواج وغيرها من الكبائر والفواحش…
ومنهم دعاة يدعون إلى إفساد أخلاق الناس بأعمالهم لا بأقوالهم.
ومدار دعوى هؤلاء على الشهوات والشبهات، وأمر هذه الأخيرة أخطر لأن من يتولاها يكون لهم حظ من العلم بهذا الدين يوظفه لبث الشك والريب في نفوس المسلمين.
فكل هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، وفي جهنم سبعة أبواب كل باب له جزء مقسوم من الناس ففيها باب للزنا وباب لشرب الخمر وباب للقذف وباب للعقوق إلى غيرها من الأبواب. وقد حذر منهم رسول الله : فعن “ثوبان قال: قال رسول الله : «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»”.
وهكذا عندما سمع الصحابي الجليل من الرسول ، أفعال هؤلاء سأله عن أوصاف هؤلاء القوم فكان جوابه، : «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا».
في رواية أبي الأسود: (فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس).
فسأل عن واجب المرحلة وما تقتضيه من كل مسلم: “قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟”
فقال : «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم».
فجماعة المسلمين مستمرة في الزمن وهي الجماعة التي تهتم بإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، وإقامة الحجة لله على أهل الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود ومواساة الضعفاء ورفع الظلم.
قال الطبري: (اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَمْر وَفِي الْجَمَاعَة، فَقَالَ قَوْم: هُوَ لِلْوُجُوبِ وَالْجَمَاعَة السَّوَاد الْأَعْظَم، ثُمَّ سَاقَ عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي مَسْعُود أَنَّهُ وَصَّى مَنْ سَأَلَهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَان ” عَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّة مُحَمَّد عَلَى ضَلَالَة”. وَقَالَ قَوْم: الْمُرَاد بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَة دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ قَوْم: الْمُرَاد بِهِمْ أَهْل الْعِلْم لِأَنَّ اللَّه جَعَلَهُمْ حُجَّة عَلَى الْخَلْق وَالنَّاس تَبَع لَهُمْ فِي أَمْر الدِّين).
أما إمام المسلمين فالمقصود به من يخلف رسول الله الخلافة الشرعية وهو الحامل للوحي حفظا وفهما وقدرة على تنزيله على الوقائع والأحداث والحكم عليها.
وصحّ عنه : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة،وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «الجماعة».
قال عبد الله ابن مسعود في تفسير هذه الرواية: “الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك،فإنك أنت حينئذٍ الجماعة”. وهذه الرواية صحيحة.
وثمةَ رواية أخرى يصححها بعض أهل العلم لشواهدها؛ “قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»”.
وقد يصير حال المسلمين إلى الضعف والتفرق بحيث لا تصير لهم جماعة ولا إمام، فما العمل إزاء هذا الوضع؟ وهو سؤال الصحابي : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
فكان جواب رسول الله وسلم: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
وجواب عبد الله ابن مسعود ، يوضح ذلك: “الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، فإنك أنت حينئذٍ الجماعة”.
أي فاعتزل تلك الفرق التي ليست على الحق، والزم الحق وإن كنت لوحدك.
نسأل الله تعالى أن يعيد هذه الأمة إلى سابق عزتها وقوتها بتشبتها بكتاب ربها وسنة نبيها، ويعيذها من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ذ. محمد بوزين