تُعنى هذه الزاوية بجمع ما تناثر من نصوص الإعجاز القرآني في غير مصادره المتخصصة، وما تناثر في هذه المصادر لكن لغير مؤلفيها، كما تُعنى بتصنيفها حسب تاريخ وفاة أصحابها، وذلك خدمة لمكتبة هذا العلم، وفتحا لآفاق جديدة للبحث فيه، ومحاولة لإقامة
(الموسوعة التاريخية لنصوص الإعجاز القرآني في التراث العربي).
(تتمة نصوص الطبري (ت310 هـ))
(4)
«القول في تأويل قوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (الأنعام: 25).
يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام، الذين جعلتُ على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك، (كُلّ آيَةٍ): يقول: كل حجة وعلامة تدلّ أهل الحِجا والفهم على توحيد الله، وصدق قولك، وحقيقة نبّوتك، (لا يُؤْمِنُوا بِها) يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالة على ما هي عليه دالة. حتى إذَا جَاءُوكَ يُجادِلُونَكَ يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به، (يجادلونك). يقول: يخاصمونك. (يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا). يعني بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها، يقولون لنبيّ الله إذا سمعوا حجج الله التي احتجّ بها عليهم، وبيانه الذي بينه لهم: (إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ). أي: ما هذا إلاّ أساطير الأوّلين».
[تفسير الطبري، 9/199]
(5)
«القول في تأويل قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(يونس: 38).
يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه، فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون: إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العرب، ولساني مثل لسانكم وكلامي [مثل كلامكم]([1])، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن.
والهاء في قوله (مثله) كناية عن القرآن.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته، ثم ألقيت سورة وأضيف المِثل إلى ما كان مضافا إليه السورة، كما قيل: (واسئل القرية) يراد به: واسأل أهل القرية.
وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن السورة إنما هي سورة من القرآن وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن، فقيل لهم: فأتوا بسورة من مثله ولم يقل: مثلها؛ لأن الكناية أخرجت على المعنى – أعني معنى السورة – لا على لفظها؛ لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: فأتوا بسورة مثلها.
وادعوا من استطعتم من دون الله يقول: وادعوا أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها من قَدَرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم، (من دون الله) يقول: من عند غير الله، فأجمعوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورة مثله أبدا.
وقوله: (إن كنتم صادقين) يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يُعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك، فلا شك أنكم كَذَبة في زعمكم أن محمدا افتراه؛ لأن محمدا لن يعدو أن يكون بشرا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورة مثله، فالواحد منكم عن أن يأتي بجميعه أعجز».
[تفسير الطبري، 12/182-184]
(6)
«القول في تأويل قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (هود: 13).
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد : كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحّة نبوّتك هذا القرآن من سائر الآيات غيره، إذْ كانت الآيات إنما تكون لمن أُعطيها دلالة على صدقه، لعجِز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها.
وهذا القرآن جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله، فإن هم قالوا: افتريتَه، أي: اختلقتَه وتكذّبتَه، ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ إلى آخر الآية.
ويعني تعالى ذكره بقوله: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، أي: أيقولون افتراه؟ وقد دللنا على سبب إدخال العرب (أم) في مثل هذا الموضع.
فقُل لهم: يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن (مفتريات)، يعني: مُفتعَلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترى، وليس بآية معجزة كسائر ما سُئِلتَه من الآيات، كالكنز الذي قلتم: هلاّ أنزل عليه؟ أو الملَك الذي قلتم: هلاّ جاء معه نذيرا له مصدّقا؟ فإنكم قومي، وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم، ومحال أن أقدِر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق.
يقول جلّ ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله – يعني سوى الله – لافتراء ذلك واختلاقه من الآلهة. فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبيّن لكم أنكم كَذَبة في قولكم (افتراه)، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به، أنه من عند الله، ولم يكُن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذّبون به، أنه من عند الله، مثل الذي تسألون من الحجة، وترغبون أنكم تصدقون بمجيئها.
وقوله: إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لقوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وإنما هو: قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد، وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك، من الاَلهة والأنداد».
[تفسير الطبري، 12/343-344]
([1]) – ما بين المعقوفتين ليس في نشرة الدكتور تركي، وهي زيادة مصرها نشرة الأستاذ شاكر لتفسير الطبري (15/91) ليستقيم المعنى.
د. الحسين زروق