لم تكن الهجرة النبوية حدثا عاديا جاء وفق سريان الزمن وانقضاء المدد، بل كان أمرا منضبطا لقواعد التخطيط والتهييء، وبذل الوسع في البناء الدعوي والبحث عن آفاق أرحب للدعوة الإسلامية.
ذلك أنه لما اشتد الأمر في البيئة القرشية بالتضييق على الدعوة وأهلها، وانسد أفق هذه الدعوة، ولم تعد البيئة منتجة ولا صالحة لامتداد الدعوة وانتشارها وتوسعها، بفعل الحصار والتضييق والترهيب والملاحقة…
وهذا ما جعل القصد النبوي يتجه لنقل الدعوة الى القبائل المجاورة لمكة، فكثرت تحركات النبي جهة مضارب الأقوام ومنازلهم ومواسمهم و أسواقهم، يلتمس تبليغ دعوة الإسلام و نشرها بين الناس، رغم ما كان يلقاه من أذى وصدود وإعراض وتعريض. روى غير واحد من أصحاب الحديث والسيرة عن طارق المحاربي : “…رأيت رسول الله بسوق ذي المجاز و لي بيَاعة أبيعها، فمر وعليه جبة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب. قلت من هذا؟ قالوا هذا غلام بني عبد المطلب. قلت فمن هذا الذي يتبعه فيرميه؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.” (انظر البدر المنير لابن الملقن 1/680).
في حمأة هذه الظروف و الأحوال لم ينقطع النبي عن القيام على أمر الدعوة، ولم يتوان في البحث عن مكان آمن يسند الدعوة ويوفر لها شرط الحرية لضمان نموها وتوسعها.
وما كان ذلك ليتحقق إلا بمزيد تحمل الأعباء، و مضاعفة الجهد، والصبر على البلاء، واستغلال كل ما يسعف في تحقيق المراد.
وفي هذا الصدد كان النبي يستغل وفود الحجاج من قبائل العرب على موسم الحج بمكة ليعرض نفسه على الناس، وأصبح يلتمس منهم إيواءه ودعوته، بمعنى أنه صار يبحث عن مكان صالح لاحتضان الدعوة، قصد استنبات بذرتها في بيئة جديدة توفر حرية سريان الدعوة ونمائها.. جاء في أخبار السيرة: كان رسول الله يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف يقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي »، فأتاه رجل من همذان فقال: أنا، قال: «وعند قومك لي منعة»؟ قال: آتيهم وأخبرهم و ألقاق من قابل، فانطلق وجاءت وفود الأنصار.(الحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وصححه الحاكم).
في هذه الأجواء لم تكن السبل لتنقطع أمام الحركة الدعوية النبوية، مع البحث الدؤوب عن المخرج من الضيق والشدة، لتنفتح أمام هذه الدعوة آفاق واسعة رحبة في بيئة محتضنة، هيأ الله فيها أسباب الإقبال والقبول. فما جاءت وفود الأنصار إلا بفعالية هذه الحركة المسترسلة المتتابعة الحلقات. ذلك أن رسول الله دأب على عرض الدعوة على من يذهب لملاقاتهم من وفود حجاج بيت الله بمكة، فكان من أمر ذلك، في حج السنة الحادية عشر للبعثة، أن لحق نفرا من الخزرج فكلمهم وبسط لهم القول ودعاهم…
وملخص هذا الحدث -على ما جاء في كتب السيرة– أن رسول الله خرج ذات ليلة ومعه أبوبكر وعلي رضي الله عنهما، فمر على منازل أقوام يكلمهم في الإسلام. الى أن صادف ستة نفر فلحقهم وكلمهم وسألهم ممن هم؟ فقالوا من الخزرج. فالتمس أن يكلمهم، فجلسوا إليه، وشرع يعرض عليهم دعوة الإسلام ويشرح حقيقته، ويدعوهم ويتلو عليهم آيات من القرآن. ثم أشار بعضهم الى بعض أنه النبي الذي تذكره اليهود و تتوعدكم به فلا تسبقنّكم إليه. انظر ما رواه طبراني عن ابن اسحاق، والحاكم والبيهقي.
لقد كان هذا اللقاء -على قصره منطلقا- لفتح مكان إيواء الدعوة و نصرة نبي الإسلام، وتوفير المنعة والنصرة اللازمة للقيام على البلاغ الدعوي في مواجهة المنع والتضييق، وتشديد الخناق وتعطيل سريان الدعوة، ومحاولة القضاء النهائي عليها والإجهاز على أهلها.
هذا وقد أضحى أمر طلب النصرة والمنعة ملحا ألجأت إلية الحاجة الماسة الى نقل بذرة الدعوة الى المكان الأنسب للإنبات والإزهار والإثمار… وهوما تحقق بتيسير الله لبيئة جديدة مناسبة وهي بيئة يثرب. وكان من تيسير الله أن أسكن حَيّيّن من العرب، وهما الأوس والخزرج، يثرب، فجاورهما اليهود الذين كانوا يوالون قبيلة على حساب أخرى، ويأججون الصراعات فيما بينهما، ويذكرون خروج نبي لآخر الزمان، وأنهم سيسبقونهم اليه وأنهم سيقاتلونهم معه.
وكان هذا ما استقر في وجدان أفراد القبيلتين و سهل إقبال النفر الستة على سماع كلام رسول الله ، وإصغائهم لدعوته. فكانوا فاتحة خير على أهليهم و قبيلتهم ومدينتهم، بما تأملوه من خير هذه الدعوة، وأنها تكون سببا في جمع شمل القبيلتين المتصارعتين وتحقيق الألفة والوئام بينهما.
ولقد كانت مواعدتهم النبي عليه السلام اللقاء في عام قابل، فتحا عظيما لأفق ممتد أمام الدعوة، انفتحت فيه السبل لسريان هذه الدعوة بكل سلاسة وحيوية، وانتعش فيه الفعل الدعوي التربوي ليشكل قاعدة الانطلاق الجديد للبناء الدعوي العام.
فلما رجع هؤلاء الى قومهم بدأوا يذكرون الخبر لذويهم ومعارفهم وأهل صداقتهم، فبدأت تنتشر أخبار الدعوة وأنباء الإسلام. فلما دار العام وحل موعد الحج، خرج لموعد ملاقاة النبي اثنا عشر رجلا من الأوس والخزرج، ولاقوا رسول الله عند العقبة على الموعد، فخاطبهم وحدثهم واستوثق منهم، وأفضى الأمر الى عهد و بيعة. وهي بيعة العقبة الأولى التي تتفرد بميزتها ومكانتها في وضع الأسس واللبنات الأولى لإنشاء النواة السليمة التي تقوم عليها الدعوة والدولة معا.
روى البخاري بسنده عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: «تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، و لا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، و لا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم، و لا تعصوني في معروف، فمن وفى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهوله كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره الى الله إن شاء عاقبه و إن شاء عفى عنه». (انظرصحيح البخاري كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الانصار).
هذه مقالة النبي ، على وجازتها، تضمنت قواعد وبنود دستور مرحلي يهدف الى تأطير الحركة الدعوية لإخراج الأمة. وليس من العسير ملاحظة قيام هذه البيعة على بنود مهمة في البناء العقدي والتصحيح التصوري الذي يشكل الأساس الأول والأهم، ويكون محور الأمر كله. ثم تلت ذلك بنود تشريعية أخلاقية بانية، وهي مناداة أساس لبناء الشخصية المسلمة المتفردة بالرفعة في انضباط السلوك وسمو الأخلاق، مما لا يضيع معه هدف إنشاء الكيان الإسلامي في إطار من القيم الحضارية العليا.
ولعله لا تغيب عنا ظلال البند السادس من هذه البيعة، وهو ينطق بما سيكون من أمر هذه الأمة و كيانها، وفيه قوله : «ولا تعصوني في معروف» فلا يفهم منطوقه إلا باعتبار ما سيكون لأن النبي لا ينطق إلا بمعروف، فالإشارة هنا الى ما سيِؤول اليه الأمر من قيام كيان و دولة قائمة على طاعة في المعروف.
ولعل هذا ما جاءت ببيعة العقبة الثانية للتنصيص عليه بكل وضوح، ذلك أن البناء بعد الإعداد يقتضي هذا في هذا الظرف المناسب. ففي هذه البيعة بسط رسول الله بنود البيعة فقال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، و على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وعل أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة».
لقد كانت هذه البنود في هذه البيعة معربة عن منتهى ما وصل إليه الإعداد والتمهيد لاستئناف حركية دعوية قابلة للنمو و التوسع، واستيعاب المقبلين عليها والمنشرحين لها. مما أهل البيئة الجديدة (يثرب) لاستقبال المهاجرين بدينهم ودعوتهم، واحتضانهم تمهيدا لاستقبال نبي الإسلام محمد بن عبد الله ، ونصرته، حيث تم استكمال بناء دعوة الإسلام ودولة الإسلام، ومن ثم إخراج الأمة القائمة على الحق بالحق، الأمة الوسط الشاهدة على الناس بالناس. فلم يبق بعد ذلك إلا اقتفاء الاثر واتباع النهج القويم لمن أراد أن ينتفع وينفع. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
د. الحسان حالي