الخطبة الأولى:
إن الله عز وجل قرر في كتابه أن الرابطة التي تجمع بين المسلمين هي رابطة الأخوة في الدين، فقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة(الحجرات: 10). وأكد ذلك رسول الله فقال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا” وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، “بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (رواه مسلم).
ومن مقتضيات الأخوة ألا يشمت الأخ بأخيه، لأن الشماتة تعني الفرح بما يسوء الآخر، وكيف للأخ أن يفرح بما يسوء أخاه؟!! بل كيف يفرح المؤمن بما يسوء أخاه المؤمن، وهو يسمع الحديث المتفق عليه الذي يقول فيه رسول الله : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟!!
عباد الله، لقد أكد الله عز وجل أن الشماتة تعبير صريح، وعلامة واضحة على العداء. قال تعالى وهو يحكي كيف أن هارون طلب من أخيه موسى الكليم ألا يشمت به الأعداء بمعاملته له بنفس ما يعاملهم به، واعتباره معهم سواء في الذنب والمعصية، حيث إن موسى رجع إلى قومه وهو في شدة الغضب لأنهم اتخذوا العجل إلها من دون الله، وكان قد ترك معهم أخاه هارون ، فغضب منه وأراد أن يبطش به، لأنه لم يغير هذا المنكر العظيم، لكن هارون خشي إن هو غير المنكر أن يتفرق بنو إسرائيل، فرأى أن يترك ذلك حتى يرجع موسى: قال تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَال ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(الأعراف: 150). الشاهد عندنا في هذه الآية هي قول هارون : فلا تشمت بي الأعداء، بمعنى أن الذي يشمت هو العدو. وهذا المعنى يؤكده الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة , أن النبي قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ».
ولأن الشماتة تعبير عن العداء، فإن الذي يفترض فيه أن يشمت بالمسلمين هم الكفار والمنافقون، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى حكاية عنهم : إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(آل عمران: 120). قال قتادة في تفسير هذه الآية، أي “إذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به. فهم كلما خرج منهم قَرْنٌ أكذبَ الله أحدوثته، وأوطأ محلَّته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقى إلى يوم القيامة.
وعن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله تعالى: إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، قال: هم المنافقون، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم. وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به.
عباد الله، كما أن الشماتة تعبير عن العداء، هي تعبير أيضا عن الغل والحقد والبغضاء. وكما أنه لا يجوز للمسلم أن يعادي أخاه المسلم، لا يجوز له أن يحقد عليه أو يبغضه أو يحمل له الغل في قلبه. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(الحشر: 10). وكان من دعاء النبي أنه يقول: «رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي» (مسند الإمام أحمد). ومعنى اغسل حوبتي: أي امح إثمي، ومعنى: اسلل سخيمة قلبي: أي أزل غشه وغله وحقده وحسده وما يشابهها من مساوئ الأخلاق التي تنشأ في الصدر وتسكن في القلب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد، فإن الشماتة بالمسلم لا تجوز ولو كان من أهل المعاصي، لأن الله تعالى فتح باب التوبة للعبد ما لم يغرغر، فذلك العاصي قد يتوب فيتوب الله عليه، بل قد يبدل الله سيئاته حسنات. كما أن الشماتة بأهل المعاصي فيها تزكية للنفس، والله تعالى يقول: فلا تزكوا أنفسكم(النجم: 32)، وفيها غرور وعجب وشعور بالأمن من الوقوع في المعصية، ومن ذا الذي يأمن على نفسه من الفتنة؟ بل من ذا الذي يظن أن نفسه معصومة من الخطأ والزلل والمعصية؟؟ ففي سنن الترمذي أن أم سَلَمَةَ رضي الله عنها سئلت: مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ، فقَالَتْ: “كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»” قَالَتْ : “فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ»” فَتَلَا مُعَاذٌ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا.
إن واجب المسلم تجاه أهل المعاصي أن يشفق عليهم، ويخاف عليهم، فينصحهم ويعظهم ويذكرهم بالله، لا أن يشمت بهم. ولذلك قال بعض السلف: “أهل المحبة لله، نظروا بنور الله ، وعطفوا على أهل معاصي الله، مقتوا أعمالهم، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار”.
أما من يشمت بالعصاة من المسلمين فينبغي أن يخاف على نفسه للحديث الذي رواه الترمذي عنْ وَاثِلةَ بنِ الأسْقَعِ أنه قالَ : قال رسُولُ اللَّهِ : «لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَة لأخيك فَيرْحمْهُ اللَّهُ وَيبتَلِيكَ». وقال ابن سيرين: “عيرت رجلا بالإفلاس فأفلست”.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ونعوذ بك ربي من السلب بعد العطاء…
اللهم لا تسلبنا الإيمان بعد أن ذوقتنا حلاوته، واحفظ علينا ديننا وعافيتنا وأمننا وسائر نعمك التي أنعمت بها علينا.
د. عبد الرزاق الصبيحي