هجرة الرسول المصطفى إلى المدينة المنورة حدثٌ ليس كباقي الأحداث؛ فلقد أُسري به قبل الهجرة بفترة ليست بعيدة، من مكة إلى بيت المقدس، وعُرج به إلى السموات العلا، وكان بالإمكان أن يهاجَر به كما أُسري به ، بشكل خفي وسري، وبقدرة القدير السميع العليم، دون أن يعلم بذلك المتربصون به، ويكون ذلك معجزة أخرى أكبر وأجل، وخاصة بعد المَكر الذي مُكر به كما ذكر رب العزة في كتابه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وكذلك بعد أن بدأت دعوته تنتشر هنا وهناك، ويُقبِل من يقبل على اعتناق الإسلام، ثم خاصة أيضا في خِضم ما يعانيه أتباعه المستضعفون من اضطهاد وتعذيب، حتى تكون الدلالة على النبوة أوضح وأدل.
لكن الله تعالى اختار لرسوله طريقا آخر، لأن الهجرة نهاية مرحلة وبداية أخرى، إنها بداية لتأسيس دولة بالمفهوم الكامل للدولة، وتأسيس كل شيء لا يُبنى على المعجزات والغيبيات والخوارق، وإنما يبنى أولا وقبل كل شي على أساس واقعي، مما هو متعارف عليه في السنن الكونية، فيكون ذلك من التدبير الإنساني والتخطيط البشري، ثم يأتي مع ذلك التأييد الرباني توفيقا وتسديدا ليكون ذلك التدبير قائما على أساس تقوى من الله ورضوان.
لذلك كانت هجرة الحبيب المصطفى تدبيرا يحمل كل السمات البشرية الإنسانية كما هو واضح في ما ذكرته كتب السيرة النبوية، وبيَّنته دراسات حديثة بشكل مفصل، لكن بالطبع، مع استحضار النية ورجاء التوفيق الرباني.
وعلى هذا الأساس كان عليه الصلاة والسلام في ترتيبه لأمر الهجرة رائدا في تقديم دروس ترتبط بواقع المرحلة، ليكون ذلك درسا مبيِّنا لمن يأتي بعده أن أي بناءٍ للإنسان والمجتمعات لا يكون بالتواكل، ولا بالاعتماد على الآخر، ولا بالغش والتحايل، وإنما بالاعتماد على النفس ونكران الذات مع خشية الله تعالى وحسن التوكل عليه.
ولقد بينت أحداث الهجرة بتفاصيلها الكبيرة والدقيقة معاً، كيف أن التخطيط المحكم مع الإيمان المطلق بعناية الله تعالى وتوفيقه، والتوكل عليه حق التوكل، والتسليم بإرادته، يؤدي بشكل قطعي إلى الاطمئنان على الحال والمآل؛ ومما يدل على ذلك أمران كبيران:
- وصول المشركين إلى الغار بعد أن اعتمدوا ما لديهم من خبرة في اقتفاء الأثر، حتَّى قال أبو بكر : “لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا”، فيجيبه الرسول مطمَئِنّاً، ومُطَمْئِناً: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن؛ فإن الله معنا».
- إدراك سُراقة بن مالك للرسول وصاحبه، وهما في طريقهما إلى المدينة، بعد أن استعمل كل ما لديه من حيل للاستئثار بالجائزة التي أعدتها قريش لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا، لكن لما رأى من آيات الله ما رأى ناداهما بالأمان، وطلب من الرسول أن يكتب له كتاب أمان لما يستقبل من الزمان، بعد أن أيقن أنه ممنوع منه وأن أمره سيظهر –كما قال-.
ومن الملاحظ أنه كل مع هذا الاطمئنان من أن أمر الرسول سيظهر، وأن التأييد الرباني واضح، ليس مِن قِبَل الرسول فقط، ولكن مِن قِبَل من جاء يطلبه، نجد المصطفى يحرص على المزيد من الأخذ بالتدابير الإنسانية، فيقول لسراقة وقد أخبره بما أخبر، وعرض عليه ما عرض، يقول له: «أَخْفِ عَنَّا». (من الإخفاء).
هذان حدثان من الأحداث الكبيرة للهجرة النبوية، تبرهن بشكل واضح على أن الرسول كان قدوة في كل شيء، في السراء والضراء، في المنشط والمكره، فمتى نتخذه إسوتنا وقدوتنا في حياتنا كلها، فنعمل لدنيانا اعتمادا على أنفسنا لا على غيرنا، متوكلين على الله لا على أحد سواه، لنعيش مكارم الأخلاق التي جاء ليتمها، وليسود مجتمعاتِنا العدلُ والحرية والمساواة وحسن التعامل، وتختفي الكراهيةُ والاستعباد والظلم وسوء التعامل.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني