تناول الأستاذ الفاضل في الحلقة السابقة نقطتين تتعلق الأولى بمكانة العقيدة في النظم الاجتماعية الإسلامية والثانية بالهدى الاجتماعي في عقيدة التوحيد، ويواصل في هذه الحلقة بيان الهدى الاجتماعي في الإيمان بالنبوة والرسالة واليوم الآخر.
ج – الهدى الاجتماعي للنبوة والرسالة:
الإيمان بالنبوة والرسالة تعني الاعتقاد بأن الله سبحانه قد اصطفى من بني آدم رسلا ليبلغوا عنه مراده من الخلق اعتقادا وسلوكا وتعبدا، لتكون حياة المستجيب وفق مراد الله، وما اقتضته حكمته وسنته في الخلق.
ذلك أن البشر في كمالهم النوعي في هذه الحياة وفي استعدادهم للحياة الأبدية هم في ضرورة فطرية إلى هداية الرسالة، لأن حياتهم الاجتماعة لا تستقيم إلا بأخذها بتعاليم اعتقادية وعملية لا تختلف فيها الأهواء والشبهات والعقول والمدارك… وذلك لا يتأتى إلا ممن خلق الخلق وطبعه بما طبعه؛ لأنه الأعلم بما خلق وبما يصلحه ويصلح له. فالحياة الاجتماعية متوقفة على بعد حيادي في التنظيم والتشريع مصدرا وموضوعا ليستقيم أمرها.
والرسالة والنبوة هي تلك الهداية العليا للبشر مصدرا وموضوعا لا تغنيهم عنها هدايات الحواس الظاهرة والباطنة، ولا هداية العقل؛ لأن هذه هدايات شخصية فردية محدودة وتلك هداية مطلقة لنوع الإنسان في جملته، تعرف بالخالق المعرفة الحقة وبالمهمة التني وجد لها والغاية التي هو سائر إليها وتضع له القانون الذي يحقق ذلك كله.
ورسالة القرآن تحمل في ذاتها تصديق ذلك ومعه صدق النبوة والرسالة(1).
ومن ذلك إنباؤه بأسرار الأمم الخالية وأسرار الكتب الماضية، وما أخبر به من أحداث مستقبلية وحقائق كونية وسنن اجتماعية وغيرها من أسرار العمران والاجتماع والتاريخ مما تظافرت على تصديقه تجارب العلماء وبحوث الدارسين ومما قاله الله تعالى في وصف القرآن: وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (طه: 113).
وجاء في تفسير قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (النساء: 175).
إن النور هو الرسالة والبرهان هو النبي الأمي الذي… لم يعن في طفولته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية.. وما تتزكى به النفس البشرية وتصلح به الحياة الاجتماعية.
وهذه المعاني التي فسرت بها الآية هي المهمة التي بينها وحددها القرآن للرسول والرسالة في قول الله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين(الجمعة: 2).
وإن شواهد التاريخ الثابتة التي تصور لنا الواقع الاجتماعي عصر نبوة الرسالة الخاتمة وتصف في الآن ذاته الانقلاب الذي أحدثته النبوة والرسالة في هذا الواقع لشاهد آخر مؤكد للهدي الاجتماعي في النبوة والرسالة، المتمثل في صلاح أحوال الناس وتحدد قواعد سلوكهم وتنظيم علاقاتهم، وهي هداية لا يغني عنها أي تشريع مهما كانت درجته.
جاء في تفسير قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (البقرة: 213).
إن طبيعة الناس أن يختلفوا لأن ذلك أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف الإنسان في الأرض.. ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون وذلك قوله تعالى: فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو كتاب واحد، جاءت به الرسل جميعا وإن اختلفت تفاصيله وفق حاجات الأمم والأجيال وأطوار الحياة(2). والقيمة الاجتماعية لهذه المعاني هي في الشعور بوحدة البشرية ووحدة الدين ووحدة الرسالة ووحدة المعبود، والاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها والاعتزاز بالهدي الثابت والمطرد(3).
وإن واقع المجتمع الإسلامي المعاصر لفي أمس الحاجة إلى أن تتمثل هدي حقيقة النبوة والرسالة ولذلك أوجب عدد من الفسرين على من يتهيأ للخوض في بيان القرآن أن يجعل من أغراضه معرفة المقاصد الاجتماعية التي نزل القرآن لتحقيقها وفي مقدمتها صلاح الأحوال الفردية والاجتماعية والعمرانية(4).
د – اليوم الآخر في بعده الاجتماعي:
الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان الأساسية الثلاثة للعقيدة الإسلامية والقرآن الكريم في منهج بيانه لهذا الركن ربط بينه وبين الإيمان بالله في كثير من آياته وقد أطلق عليه القرآن: اليوم الآخر ويوم الحساب ويظهر من التسميتين معا أنه يوم الحسم الأخير فيما قدم المكلف من أعمال ثم لا تكليف بعد ذلك وإنما هو يوم يجزى فيه الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (النجم: 30)، ولذلك كان الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء، وأن حياة الإنسان ليست فوضى بدون قصد ولا ميزان.
ومن ثمار الإيمان باليوم الآخر ما يدور عليه أمره من حساب وجزاء على ما قدم الإنسان من عمل في الأولى في إطار المسؤولية والأمانة التي حملها. ذلك أن عقيدة القرآن رتبت على الإخلال بالتكاليف تبعات جزائية في الدنيا والآخرة؛
فأما في الدنيا فبما حددته نظم الشريعة اجتماعيا من حدود وتعازير وأحكام عقابية في نظام المعاملات وفي نظام الأسرة وغيرها في النظم الاجتماعية.
وأما في الآخرة، فبما أخبرت به أيضا الرسالة النبوة من وعد ووعيد جزاء وفاقا وعطاء حسابا.
ثم إن الإخلال بالتبعات الاجتماعية في الدنيا وما يتولد عنها من خلل في المجتمع ينتج عنه عقاب دنيوي جماعي تبعا لسنة الله في الاجتماع البشري كما يصرح به قوله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة (الأنفال: 25) وللآية نظائر في القرآن الكريم ينكشف لنا بها الوجه الاجتماعي لمسألة الإيمان باليوم الآخر وأثر ذلك في تقويم السلوك الفردي والاجتماعي، وانعكاسه على الحياة الاجتماعية للأمة. والمُبين من جهة أخرى عن القيمة الاجتماعية للفكر القرآني الذي لا يجعل أي معنى للإيمان بالله وبالرسالة دون الإيمان باليوم الآخر.
والتعليل القرآني لهذه القضية نجده في الآيات التي ربطت بين أخلاق الناس وتصرفاتهم في الدنيا، وبين الإيمان باليوم الآخر، وقررت أن الإيمان بهذا اليوم يجعل المؤمن به يلتزم بصالح الأعمال والأخلاق، وأن عدم الإيمان به يجعل الكافر به يقدم على سيئات الأعمال والأخلاق بدون تورع ولا مبالاة. ومن هذه الآيات قوله تعالى: لا يستاذنك الذين يومنون بالله واليوم الآخر يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليهم بالمتقين إنما يستاذنك الذين لا يومنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريب يترددون (التوبة: 45) وقوله تعالى: أرايت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحظ على طعام المسكين (الماعون: 1-3) بتوظيف مفهوم المخالفة في البيان.
هذا وللإيمان باليوم الآخر أثر آخر على المستور الفردي حيث يجعل المؤمن به يتحمل المكاره ويصبر على الشدائد، ويقدم على النصيحة… دون أن يهتم لما قد يصيبه من أذى في هذه الحياة معتقدا الجزاء الأوفى في اليوم الآخر.
وهذه المعاني الاجتماعية مما يؤخذ من قوله تعالى: يومنون بالله واليوم الآخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (آل عمران: 114).
على أن غياب الإيمان باليوم الآخر يدفع صاحبه إلى الإقدام على مختلف الجرائم، وهذا مما يفهم من تعقيب القرآن على سلوك التطفيف في قوله تعالى: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم (المطففين: 4-5).
إذ السؤال في الآية بما يحمله من تنبيه وتوبيخ يقرر جراءة كثير من الناس على الآثام بسبب جحودهم يوم الحساب والكفر بالبعث والجزاء.
وبناء على كل ذلك يتقرر أن للاعتقاد باليوم الآخر بعدا أساسيا في تكييف السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان بما يتفق وهذا الاعتقاد، وهو بهذا الاعتبار ركن من أركان الارتقاء البشري بما يبعثه فيهم من استعداد وإعداد إلى أوسع وأكمل وأبقى مما يتوهم، وأن الذين نسوا يوم الحساب لا يصدهم عن الباطل والإخلال بالتبعات والقيم الاجتماعية إلا العحز ولا يرجعهم إلى الحق إلا القوة، ولا يردهم عن المنكر إلا السلطان.
ولنقدر ماذا يحدث من فاسد اجتماعي لو فقدت هذه الحقيقة الإيمانية الكبرى من حياة الناس فبأي حقيقة وبأي مبدأ اعتقاد يمكن ملء الفراغ الهدائي الضروري في الاجتماع البشري.
د. محمد السيسي
———————-
1 – مدخل إلى القرآن الكريم.
2 – هذا ما يدل عليه قوله تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه (إلى قوله تعالى) لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة: 50).
3 – ن. تفسير الظلال: 1/42.
4 – ن. مقدمة تفسير المنار لرشيد رضا مقدمة تفهيم القرآن لأبي الأعلى المودودي ومقدمة التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.