لعل من حسنات التطور التكنولوجي، واتساع دائرة التواصل السريع عبر شبكات الانترنيت، توالي الأخبار وتعاقب الأنباء تباعا وبسرعة غير مسبوقة، بحيث أصبح من المستحيل إخفاء المعلومة، أو طمس الحقائق وتحريفها، أو التحكم في انتشارها.
ولعله من الواضح أن أكثر المحطات اشتعالا اليوم، والتي تستحوذ أخبارها على الاهتمام على مدار الساعة، ما يقع للمسلمين في بورما، وما يعانونه من تهجير وتنكيل وقتل، أملا من البوذيين في إطفاء جذوة الإسلام هناك، وترهيب المسلمين ودفعهم للتخلي عن دينهم.
فماهي الخلفيات التاريخية لمأساة مسلمي بورما؟ وما موقف المنتظم الدولي من حق المسلمين في البقاء والوجود عامة وفي بورما خاصة؟….
أولا – المسلمون في بورما، الامتداد التاريخي والحصار الجغرافي:
بورما دولة آسيوية تقع في جنوب شرق آسيا. يحيط بها من الشمال الشرقي الصين، والشمال الغربي بنغلاديش والهند، ومن الجنوب خليج البنغال والمحيط الهندي، ومن الجنوب الشرقي شبه جزيرة ملايو … ويبلغ عدد سكانها 55 مليون نسمة معظمهم من البوذيين. ويمثل المسلمون فيها من 10 إلى 15 % أي من 7 الى 10 ملايين معظمهم يتركزون في إقليم أراكان شمال غرب بورما وعلى الحدود مع بنغلاديش.
وترجع قصة بورما إلى ما قبل عام 1784 حيث كان إقليم أراكان المسلم منعزلا عن بورما البوذية، وكان الإسلام قد وصل إلى أراكان اول مرة على يد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص وبعض التابعين في إحدى الرحلات التجارية، ثم انتشر فيه الإسلام بشكل كبير على يد التجار المسلمين في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن السابع الميلادي. واستمر هذا الإقليم يدين بالإسلام ثلاثة قرون؛ بدأ ينتشر خلالها في بعض الأماكن الأخرى في بورما عام 1824 حيث تعرضت بورما ومعها أراكان للاحتلال البريطاني.
وبعد أن فشلت بريطانيا في إخضاع مسلمي بورما ”الروهينجا” قامت بإمداد البوذيين بكل أنواع الأسلحة وبدأت تدعمهم لاستئصال المسلمين فارتكبت مجازر ومذابح ومحارق بشعة بحق المسلمين.
وفي عام 1948 خرجت بريطانيا من بورما ليواصل البوذيون جرائمهم البشعة ضد المسلمين.
ولقد تعرض المسلمون في وطنهم الأم ولا زالوا إلى أشد أنواع الإبادة الهادفة إلى طرد المسلمين ، وطبقوا ضدهم كافة القوانين من أجل تنفيذ مخططاتهم الهادفة إلى انتزاع هذا الشعب من جذوره بكافة السبل بما فيها الدموية. فبعد تطبيق قانون الجنسية الجديد في ميانمار عام 1982م ، حُرم المسلمون هناك من تملك العقارات ومن التجارة ومن تقلد الوظائف، كما حُرموا من حق التصويت في الانتخابات البرلمانية، وتأسيس المنظمات وممارسة النشاطات السياسية.
كما يحرم أبناء المسلمين -وإلى اليوم- من مواصلة التعلُّم في الكليات والجامعات. ويتم إرغام الطلاب المسلمين في المدارس الحكومية على الانحناء أمام علم بورما، ولا يسمح للمسلمين بالانتقال من مكان لآخر دون تصريح يصعب الحصول عليه، كما يتمّ حجز جوازات السفر الخاصة بالمسلمين لدى الحكومة، ولا يسمح لهم بالسفر للخارج إلا بإذن رسمي، ويُعتبر السفر إلى عاصمة الدولة (رانجون) أو أية مدينة أخرى جريمة يُعاقب عليها القانون.
ويمكن سرد جرائم البوذيين في حق المسلمين عبر التاريخ كما يلي:
- في عام 1938 هجمت جماعات الماغا البوذية على قرى المسلمين في أراكان وقتلوا المئات وحرقوا البيوت واغتصبوا النساء حتى فر أكثر من 500 ألف مسلم إلى بلاد مجاورة.
- في عام 1942 ارتكب البوذيون مجزرة أراكان وقتلوا مائة ألف مسلم واغتصبوا النساء وشردوا الأطفال وأحرقوا الجثث.
- في 1978 تم تهجير وطرد 300 الف مسلم وفي عام 1988 تم طرد وتهجير 150 ألف مسلم، وتم تهجير بعفهم في عام 1992 حتى وصل عدد المهجرين والمطرودين من مسلمي بورما 4.5 مليون مسلم.
- وفي عام 2012 ارتكب البوذيون مجزرة شنيعة بحق عشرة من الدعاة المسلمين حيث ربطوهم وظلوا يضربونهم بالسكاكين والسيوف حتى ماتوا ومثلوا بجثثهم. ثم واصلو جرائمهم بمهاجمة المساجد وهدمها، وقتل كل الرجال والنساء والأطفال في حفلات موت جماعية، وإشعال النار فيهم أحياء في محارق بشعة وفصل رؤوسهم عن أجسادهم ودفن بعضهم أحياء؛ وتقطيعهم بالسيوف وهتك أعراضهم وإلقائهم في عرض البحر …
ولا زال مسلمو الروهينجا ينامون ويستيقظون علي مذابح وجرائم جماعات الماغا البوذية المدعومة من النظام الحاكم في بورما والمستمرة في أبشع صورها في ظل صمت وتجاهل عربي ودولي.
ثانيا – مسلمو بورما تحت مطرقة صراع المصالح الدولية:
يتسم الموقف الدولي الرسمي من مأساة مسلمي الروهينجا باللامبالاة وعدم إعارة استغاثة المسلمين هناك أي اهتمام أو التفات، فلا الأمم المتحدة أصدرت بيانا تعبر فيه عن قلقها(…) ولا حركت جنودها لفرض احترام حقوق الإنسان.. وحماية حياته التي تتعرض للانتهاك في واضحة النهار…
هذا وتكمن الأهمية الاستراتيجية لبورما في موقعها الجغرافي، حيث إنها تشكل الحاجز الطبيعي بين الصين والمحيط الهندي، حيث تعاني الصين من تحد جيو – سياسي كبير متمثل في كون إطلالتها البحرية الوحيدة هي على المحيط الهادي من خلال بحر الصين، وبالتالي فإن أغلب التجارة الصينية باتجاه الغرب نحو المحيط الهندي والشرق الأوسط وأفريقيا وصولًا لأوروبا محكومة بمضيق مالاكا في إندونيسيا. هذا المضيق يمثل شريان الحياة بالنسبة للصين سواء في وارداتها الأساسية كالنفط أو في تجارتها مع الجزء الأكبر من العالم، ووصول الصين لأسواق العالم محكوم إما بمضيق مالاكا أو مضيق بنما باتجاه الشرق، وكلا المضيقين يقعان تحت السيطرة الاستراتيجية للولايات المتحدة، وبورما تتحول هنا لنقطة التفاف نحو المحيط الهندي تعطي الصين فرصة لتجاوز حصارها البحري، وفي المقابل تتحول بورما لحاجز طبيعي يعطي الغرب فرصة لتحجيم الصين جزئيًا.
ومع دخول بورما في سلك الدول التي تمتلك مخزونا نفطيا، سعت الصين للدفع بمشروع إنشاء خط أنابيب لنقل النفط والغاز من أحد موانئ بورما إلى مقاطعة يونان جنوب غرب الصين، ومن شأن إنشاء مثل هذا الخط أن يتيح للصين تجاوز معضلتها الاستراتيجية المتمثلة في مضيق مالاكا، ويمثل إقليم أراكان الذي تقطنه أقلية الروهينجيا المسلمة الواجهة البحرية الأساسية لبورما على خليج المحيط الهندي، وهذا ما يجعل للإقليم أهمية استراتيجية سواء لبورما نفسها أو الدول التي لها مصالح سياسية كبرى.
ومن أهم الأسباب التي تجعل من بورما بعدًا استراتيجيا هامًا بالنسبة للصين أيضًا، كونها الجسر الذى تعبر من خلاله إلى اتحاد دول آسيان، وهذا ما دفع الصين إلى مساعدة ميانمار في الانضمام إلى هذا الاتحاد عام 1997، رغم أنه أنشئ في عام 1967، وذلك بهدف تعزيز التجارة مع هذه الدول، والمساهمة في بناء وتطوير الاقتصاد في الجزء الجنوبى الفقير من الصين.
وعلى الرغم من الشواهد الواضحة على انتهاك حقوق الإنسان للشعب الروهينجي، فإن جيران بورما مستمرون في تجاهل معاناة هذا الشعب، والأمم المتحدة تلعب دور المتفرج. ولن يكون من المبالغة القول إن موقف المجتمع الدولي من مأساة المسلمين في بورما هو موقف يميل إلى التواطؤ والانحياز للمجرم، ولا يتناسب مع حجم المأساة، فرغم التقارير والتصريحات الصادرة عن المؤسسات والمنظمات الدولية بصدد انتهاكات حقوق الإنسان في بورما، إلا أن القرارات التي تتخذ بصدد حملات التطهير العرقي لمسلمي الروهينجيا لا تتجاوز الشجب والتنديد، بحيث تظل قيمة تلك التقارير في أنها تلقي الضوء على حجم المأساة لا غير.
ذ. عبد الرحمن غربي