لعل القارئ لعنوان مقالي “ذو العمرين “يعرّج بذهنه مباشرة إلى الوزير المؤرخ اللبيب والأديب الأريب، صاحب الستيّن مؤلفا منها: الإحاطة في تاريخ غرناطة لسان الدين بن الخطيب المشهور ب : (ذو العمرين ) و(ذو الوزارتين) أيضا،
ومحمل اللّقب مرتبط بكونه، رجلا من طراز خاص، يبيت الليل مشغولا بالتّصنيف والتأليف والكتابة، ويمضي نهاره بتدبير أمور المملكة وتسيير شؤونها، دون كلل أو ملل، كان يعاني من جفوة النوم، فقهر أرق السهر بما يضيف لعمره عمرا ثانيا هو في فلسفة الزمن تحدٍّ للأرق والموت والسكون والنسيان .
لعله في مسار الحياة لم ينتبه لهذا، ولم يخطط له، ولكنّه رحل وترك لنا قيمة حياتية عميقة، نستشفّ من خلالها أنّه لم يكن ابن ذاته وأنانيته، وإنّما كان ابن الفكرة والفعل المضيف للبشرية، ما يمكن أن يسعفها في قراءة تاريخ الأمم، وتاريخ الرّجال الذين يرفضون أن يعيشوا نكرات ويموتوا نكرات أيضا، وإلاَّ ما الذي دعاه لأن يرهق نفسه في الانتاج المعرفي والتاريخي والسياسي بالصورة التي ألّبت عليه الحساد، فمات مخنوقا في أحد السجون، مُتّهَما بالزندقة، واتباع نهج الفلاسفة في قراءة الأشياء، على ما قيل، وكان يستطيع أن يعيش في دعة وترف.
إن الفكرة حين تعيش في قلب صاحبها، تزهر وتثمر، وتربو وتكبر، متى أهداها من روحه وحسّه ووقته ما يجعلها تكبر للبقاء، وان مات هو، ليحيا بعدها عمرا أطول من عمره الفاني، هو عمره الثاني الذي يزيد ويزيد، ويثبت ويزيد متى ارتبط بفلسفة الخلود، وصاغ من فكرة العمل الصالح مفاتيح الخير التي تطهر الإنسانية من غبن الجهل والكسل والتخلّف، وتعطيها أبعادا أعمق وأرقى وهي تعانق أحلام الإنسان وأمانيه في أن يعيش في سلام نابذا للفرقة والاختلاف، كارها للفساد وأهله مستثمرا فيما يجعله يحس أن ّ في الكون ما يستحق الحياة.
المرء في اعتقادي ما أبقى؛ وأن تبقي على عمل صالح، فأنت تؤسس لما هو أكبر من عمرك المادي دون أن تدري، ولذا تجد كثيرا من البسطاء يعيشون في قلوب أهاليهم بما قدّموا من خير، ويعيشون في قلوب العامة بما تركوا من مواقف، وبما صنعوا من معروف، وإن ماتوا.
ولذا أعتقد أنّ الموت لا يعني للمسلم كثيرا، لماذا؟ لأنّ مساحة العيش بعده أوسع في الدّارين؛ ففي الدنيا حسن الذكر، وفي الآخرة حسن الأجر. ومن ثم التماهي في الخلود المادي والمعنوي.
كثيرا ما يستوقفني قوله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(آل عمران: 170)، فيشدّني هذا النّفس التفاؤلي المزروع في تفاصيل الآية لأدرك بعدها أن هؤلاء وهبوا حياتهم، إيمانا بالفكرة التي يحملونها و استرخصوها لأجل دين أو علم أو عرض أو أرض، فوُهِبوا من الله تعالى العمر الثاني وحرموا أنفسهم من الحياة الدنيا فأُهْدوا من الله حياة أفضل، وتصدّقوا بعمر الشهود، فوهبهم الله عمر الخلود… وشتان بين العمر الأول والعمر الثاني!!
إنَّ ميزان العيش أعمق لو ندرك، سرّ الوجود، وسرّ الوجود أرقى لو نشتغل على تفعيل ما هو إيجابي، فوحدها النماذج الإيجابية تعيش، ووحدها تخلد، لأنّها نجوم هدى، إذا أرادت البشرية أن تنتفع بالنّور.
دة. ليلى لعوير