ابتداء فان العولمة التي حوّلت العالم الفسيح إلى قرية أو نادٍ صغير تلتحم فيه المصالح والدول والجماعات ، انما هي الإفراز الطبيعي للتقدم التقني المدهش الذي ارتبط – لسوء الحظ – بالنظام العالمي الجديد ذي القطبية الأحادية، وخلفياته التنظيرية سواء في ( صراع الحضارات ) أو ( نهاية التاريخ ).
تعرّف العولمة في ظاهرها بأنها ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم سواء تلك المتمثلة في تبادل السلع والخدمات ، أو انتقال رؤوس الأموال، أو في انتشار المعلومات والأفكار.
أما في حقيقة الأمر فان معناها تفكيك الأمم والدول والجيوش والمجتمع والأسرة، وتجريد الفرد من القيم والأخلاق والدين، ورفع الحواجز والحدود أمام المؤسسات والشركات متعددة الجنسية، وتتحرك على محاور أربعة هي المحور الثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي.
فلو أن العولمة تشكلت في ظرف دولي متعدد القطبيات لكان يمكن أن تكون ظاهرة إيجابية تدّر الخير على الجميع، ولكن بما أنها جاءت والعالم يتمركز حول قطبية واحدة، هي القطبية الأمريكية التي انسحبت إليها المركزية الأوربية، والتي تنطوي على بعد استعلائي، مادي ، علماني، براغماتي، يقوم على التحقق بالمزيد من القوة، والبحث عن المزيد من فرص اللذة المنفلتة، والتكاثر بالأشياء، والنزعة الاستهلاكية التي يزداد سعارها يوماً بعد يوم. وبما أن المنظرين الكبار دفعوها أكثر فأكثر لأن تكون لسان حال الولايات المتحدة الأمريكية، في كل صغيرة وكبيرة، كما فعل صموئيل هنتنغتون في (صراع الحضارات) وفرنسيس فوكوياما في (نهاية التاريخ) فلنا أن نتوقع كيف سيكون مردودها على البشرية عموماً، وعلى الشعوب المستضعفة تحديداً.
ونحن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، كيف سعت دولة إسلامية شرق أقصوية هي ماليزيا في أواخر القرن الماضي إلى تعزيز اقتصادها وتنميته، والدول المجاورة لها، بتشكيل سوق شرق أقصوية مشتركة، أسوةً بما فعلته أوربا الغربية… ومضت خطوات واسعة في ذلك، وكيف أن أمريكا من خلال شركاتها العملاقة متعددة الجنسيات، تمكنت من توجيه ضربة قاسية لهذا التوجه الذي قد يدخل منافساً لمصالحها في المنطقة، وذلك بإجراء سلسلة من التحويلات المالية، والضغط على عدد من الأزرار الالكترونية، فإذا بالعملة الماليزية تنخفض بنسبة الثلث، وتتعرض المحاولة بأكملها إلى انتكاسة لم يحسب حسابها من قبل مهندسي الحركة.
ونذكر – كذلك – كيف أن أمريكا تجاوزت التقاليد المعروفة في الأمم المتحدة، وانفردت وتابعتها بريطانيا، باتخاذ قرار ضرب العراق في ربيع 2003 م بحجة امتلاكه الأسلحة المحرمة دولياً، فيما ثبت كذبه، وقامت بحربها المشؤومة ضد هذا البلد، وانتهى بها الأمر إلى إصدار قرار خطير بحلّ مؤسسته العسكرية وترك ظهور الشعب العراقي حتى اللحظات الراهنة مكشوفة للميليشيات المسلحة التي راحت تقتل وتصفّي بغير حساب.
ونذكر – كذلك – اختراق الإدارة الأمريكية لمناهج التربية والتعليم في مصر، وفي العراق، حيث تشكل “مركز تطوير المناهج” بأموال أمريكية ، واشتغل فيه تسعة وعشرون مستشاراً أمريكياً بضمنهم عدد من الخبراء اليهود … وكيف أعلنت واشنطون بوست في السادس من فبراير عام 2004 م عن السعي الجاد لتغيير المناهج التربوية والتعليمية في العراق، وكيف خصصت وكالة الولايات المتحدة للتنمية AID مبلغ 65 مليون دولار لهذه المهمة، وكيف أبدى نهاد عوض، المدير العام لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) تخوّفه من نتائج هذا الاختراق.
إنهم يريدون غزونا بثقافتهم التي تدعو إلى إعلاء القيم المادية وتعزيز مكانة الفرد والمصالح الخاصة على حساب الجماعات، والتحرّر من المبادئ والقيم السماوية التي أكدتها الأديان، ويشيعون بدلاً منها، وتحت مظلة حقوق الإنسان ومقاومة الإرهاب عولمة: المصنع والسوبر ماركت والكباريه: الإنتاج، والاستهلاك، اللذة… فيما يتناقض أساساً ليس مع مطالب الأديان وخاتمها الإسلام فحسب، وانما مع مهمة الإنسان في العالم، ومغزى وجوده في الحياة.
بقلم: أ.د. عماد الدين خليل