نهض فن النقائض، كما سلف، في الجاهلية، واستوى في صدر الإسلام، وإن كان قد اقترن في أذهان كثير من الناس بأنه فن أموي خالص، وذلك لشهرة جرير والفرزدق والأخطل فيه.
وفرق كبير بين النقائض في صدر الإسلام، وبينها في عصر بني أمية. فقد كان شعراء النقائض في الجاهلية يعنون بنقض معاني خصومهم، معتدين بقيم الجاهلية. فلما كان صدر الإسلام تحول على هذا الفن، على أيدي شعراء رسول الله ، إلى سلاح ينافح العقيدة، وينصر الدين، ويفت في عضد المشركين، وهذا شأن كل أمر كان في الجاهلية مستندا على أمر من أمور الجاهلية الأولى. فقد وجهه الإسلام توجيها حسنا، إذ كان الشعراء على وعي بقوله تعالى في سورة الأنعام 162: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فلم يكن من شيء إلا وصار -على عين رسول الله – موجها الوجهة الإسلامية الرشيدة. وهكذا صار الشاعر المسلم يفخر بدينه بدلا من الفخر بعصبيته القبلية. ولذلك لما قال كعب بن مالك:
مجالدنا عن جذمنا كلّ فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
قال له النبي : «أيصح أن تقول: عن ديننا؟»، فقال كعب : “نعم يا رسول الله”، فعدلها كعب إلى قوله:
مجالدنا عن ديننا كلّ فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
ومنذ ذلك الحين لم ينشد هذا البيت إلا على هذا الوجه.
فلماذا لم يقل الرسول لكعب: «لا تقل عن جذمنا، بل قل عن ديننا»؟ ذلك ليعلّمنا عليه السلام وجها من وجوه الحرية، ألا وهو حرية القول. ومراد النبي من سؤاله هو: “أيصح في المذهب الفني أن تقول كذا؟…”، أي هل يصح في المذهب الشعري ذلك، لأن الشعر له قواعد لابد من مراعاتها، ومن أهمها الوزن. وسؤال الرسول شاهد صدق على قوله تعالى، في سورة يس 69: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ. ومعلوم أن الرسول كان كثيرا ما يستشهد بالشعر الحسن، منوها به، ولكن بعدما يدخل عليه تعديلا. فقد كان -بأبي هو وأمي- ينشد بيتا لطرفة يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فينشده على هذا الوجه:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيكمن لم تزود بالأخبار
وقد قال له أبو بكر ذات يوم: ما هكذا قال الشاعر يا رسول الله، بل قال: “ويأتيك بالأخبار من لم تزود”، فأعاد رسول الله إنشاده: «ويأتيكمن لم تزود بالأخبار», فقال الصديق: صدق الله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي له.
وتوجيه الرسول لكعب عن طريق السؤال هو نوع من الحكمة النبوية التي يجب أن نقتدي بها، كما أنه إشارة منه إلى أن حرية القول في الإسلام مقدسة، وهي وجه من وجوه حرية الرأي. وحرية الرأي من أهم ما ينبغي أن يكفل للفرد، إذ ليس هنالك أعظم من الإيمان والكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قال: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 256)، وقال سبحانه في سورة (يونس 99): أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، ولذلك فعجبنا لا ينقضي ممن يريد أن يسلب الناس حرية الرأي، فضلا عن حرية الاعتقاد، التي هي مما كفله خالق الخلق سبحانه لعباده. ونحن نعيش في عصر نكد، يحرم فيه على الإنسان القول، وتنتزع منه حرية الرأي، ويحاسب حتى على المشاعر والعواطف والظن والنيات، وما كذلك شرع الدين للناس، ولكنها أهواء المستبدين، على اختلاف مشارب أولئك المستبدين وأصنافهم، إذ سبق الذكر أن الاستبداد ليس وقفا على الحكام، بل هنالك وجوه أخرى من الاستبداد، ومن أشنعهاوأبشعها الاستبداد الثقافي والفكري الذي يقوم به القيمون على المؤسسات الثقافية والفكرية. وبعضها يدعي الاستقلالية عن المؤسسات الرسمية وأصحاب القرار، ليضفي على رأيه طابع الحرية واستقلال، ونوعا من “المصداقية”، وهو في الواقع يمثل أبشع صور التبعية، لأنه لا يدافع حتى عن رأيه، بل هو يدافع عن رأي أولئك الذين نصبوه قيما على تلك المؤسسات، فهو -لخشيته زوال النعمة- ما يفتأ يزين لأهل الضلالة ضلالتهم، ويريد حمل الناس على ذلك. وقد رأى الناس في بيان بعض اتحادات الكتاب والأدباء عجبا. حيث فرض على ألسنة أصحاب الأقلام قيودا لم يفرضها أحد من قبل، من دعوة، لا إلى عدم مخالفة الحاكم فحسب، بل إلى عدم التواني في نصرته والإشادة برأيه، أيا كان هذا الرأي، واتهام كل من يخالف ذلك (بالخيانة العظمى). هذا مع أن من المتفق عليه هو أن أصحاب الأقلام هم أصحاب الرأي، وهم -إن استقاموا- الرقيب على الحكام للحفاظ على مصالح الأمة، لا على مصالحهم ومكتسباتهم المادية.
وهذا سيفتح لنا الباب واسعا للحديث عن العلاقة الراشدة بين المثقفين والسلطة.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني