الخطبة الأولى:
عباد الله:
اعلموا رحمكم الله أن يومكم هذا يوم رفيع قدره، عظيم أثره جليل أمره يوم ختم بليلته ليال فاضلة عشر خصها المولى بمزيد من الثواب وعظيم الأجر وشملت منه بواسع الفضل والبشر أقسم الله بها تعظيما لقدرها فقال: والفجر وليال عشر (الفجر1-2)، ونوه رسول الله بعظيم فضلها حيث قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». (رواه أحمد)، فكان مسك ختامها هذا اليوم السعيد عيد الأضحى المجيد.
فلله الحمد والثناء الحسن على هذه المنة، وله الشكر الجزيل على هذه النعمة، نعمة خصّ الله بها هذه الأمة، وأكدها طريقة هدي وسنة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
عباد الله:
عيد الأضحى يذكرنا بيوم ماض من غابر الزمان، يذكرنا بتاريخ أبي الأنبياء خليل الرحمان.
إبراهيم قصته المبثوثة بين ثنايا دفتي كلام المنان، حري بنا أن نقف عندها وقفة تأمل واعتبار، وقفة استلهام للمثل العليا من أجل استنهاض الطاقات والهمم لبعث روح جديدة في دماء الأمة المحمدية.
إبراهيم الذي امتثل لربه في كل ما عهد به إليه، إنه الموصوف بالوفي، قال تعالى: وإبراهيم الذي وفى (النجم: 36)، وفاء عند ذبح الولد وبناء البيت العتيق والهجرة والختان بالقدوم وتبليغ الدعوة، وغيرها من التكاليف الشاقة والصعبة.
إبراهيم الطاعن في السن اشتاق إلى الولد ودعا ربه قائلا: رب هب لي من الصالحين (الصافات: 100)، وليس شيئا آخر غير الصلاح، لا أن يكون صاحب مال أو جاه أو وظيفة أو غيرها من ميولات النفس البشرية وإن كان ذلك مطلوب لكن ليس كغاية ونهاية، بل كوسيلة وبداية.
بعد سنين منَ العنت والمشقة يبشر إبراهيم بغلام وصفه الله بالحليم، قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم (الصافات: 101).
يولد لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام، فيؤمر بتركه وأمه بواد غير زرع عند بيت الله الحرام، ولماّ بلغ معه السعي وهو غاية ما يكون الوالد متعلقا بولده يؤمر الخليل إبراهيم بذبح ولده فلذة كبده بيده، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك (الصافات: 102)، فما أعظمه يا رب من أمر وما أصعبه من موقف وما أشده من بلاء.
لم يكن للخليل من خيار غير الانقياد والامتثال لمن له الأمر من قبل ومن بعد لرب الأرض والسماوات والجبال.
استشار الوالد ولده ليرى رأيه في القبول أو الرفض فانظر ماذا ترى(الصافات: 102)، فأجابه إسماعيل قائلا: يا أبت افعل ما تومر ستجدني إن شاء الله من الصابرين(الصافات 102).
فلما أسلما (الصافات: 103)، أسلما الأمر كله لله وتله للجبين حيث وضع جبينه على الأرض وأخذ السكين ووضعها على رقبته، فإذا بالفرج يأتي من فوق سبع سماوات وينادى الخليل وناديناه أَن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفدينه بذبح عظيم(الصافات 104-107)، إنها المنحة بعد المحنة، إنه اليسر بعد العسر، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا (الشرح: 5-6).
أيها المسلمون والمسلمات:
لقد مر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بامتحان التكليف فوفيا، أنا وأنتَ وأنتِ كلفنا بتكاليف، فهل وفينا الأداء أم ضيعنا؟
منا من مر بامتحان الطاعة والمعصية، فهل نجحنا أم خسرنا؟
منا من مر بامتحان البلاء والمصائب والفتن، فهل صبرنا أم جزعنا؟
منا من مر بامتحان النفس، هل رفعها بالدين والخلق أم أخلدها إلى الأرض بالشهوة والهوى؟
منا من أعطي الجاه فهل سخرناه فيما ينفع الناس أم لضرهم؟
منا من أسندت له المسئولية، فهل أديناها كما طلب منا أم خنا الأمانة وفرطنا وضيعنا حقوق الناس؟
منا من له سعة في المال، فهل أنفقه في طرق الخير فيكون الفوز والفلاح والنجاح، أم بخل فيخسر ويتحسر؟
عباد الله:
إنها مثل عليا تضمنتها قصة إبراهيم التي كان ختامها ذبح هذه الأضاحي، فهي ملة إبراهيمية جارية، وسنة محمدية سارية.
لكن مع ذبح الأضاحي عباد الله، حبذا لو نضحي بشيء آخر جدير بالذبح إلى الأبد، حبذا لو نذبح أمورا لا تقل قربة إلى الله من الأضاحي، حبذا لو نذبح الشقاق والنزاع، التدابر والقطيعة، الغيبة والنميمة، البغضاء والشحناء، الهجر والجفاء…
حبذا عباد الله لو نلتقي على صعيد الحب والإخاء، لو نجتمع على مائدة التواصل والتراحم والتلاقي بعين الصفاء.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
أيها الإخوة والأخوات:
إن النبي قمة شامخة جسد هذه المعاني الرفيعة والأخلاق الفاضلة العالية، فما علينا إلا أن ننتمي إلى هذه القمة.
هل تعلم رحمك الله أن النبي ضحى بوقته ونفسه وماله من أجل أن يصل إلينا الإسلام؟!
هل تعلم رحمك الله أن النبي ضحى عنك إن لم تكن قادرا على شراء الأضحية؟!
هل تعلم أنه يحبك، وقال رافعا يديه: «اللَّهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله : يا جبريل، اذهب إلى محمد –وربك أعلم– فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله بما قال، فقال الله: يا جبريل: اذهب إلى محمد فقل: إنَا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (رواه مسلم)؟!
إنه المحب لأمته، فهل من محب للنبي ؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين. آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر
الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأمن والاستقرار، والصلاة والسلام على رسول الله الذي كان كثير الذكر والاستغفار، يدعو بالأمن والإيمان عند رؤيته الهلال فيقول: «الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب ربنا وترضى، ربنا وربك الله». (رواه الترمذي).
أيها المسلمون والمسلمات:
اتقوا الله في السر والعلن، واخشوه حق الخشية فيما ظهر وما بطن، واشكروه على ما أنعم عليكم من النعم وصرف عليكم كثيرا من الفتن والنقم، قال تعالى: ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان: 19).
عباد الله:
إن من أجل النعم وأعظمها، بل وربما يمكن تصنيفها في مقدمة النعم الأخرى، إذ إنه لا يمكن أداء أي نعمة أو أي عمل إلا بوجود هذه النعمة. إنها نعمة الأمن.
هذه النعمة التي لا يعرف قيمتها ولا أهميتها وعظم شأنها إلا من ذاق مرارة فقدانها.
نعمة الأمن نعمة جليلة ومنة كبيرة، وهي مطلب كل أمة وغاية كل دولة، من أجلها جندت الجنود ورصدت الأموال.
هذه النعمة التي نوه الله سبحانه وتعالى بشأنها في كثير من الآيات، وكانت أول دعوة لسيدنا إبراهيم حينما قال: رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر (البقرة: 125)، فإبراهيم قدم نعمة الأمن على نعمة الطعام والغذاء. بل الأكثر من ذلك فإبراهيم قدم نعمة الأمن على نعمتي العقيدة والتوحيد، قال الله على لسان سيدنا إبراهيم: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (إبراهيم :37)، وما ذلك إلا لعظم وأهمية هذه النعمة وخطر زوالها.
فوالله إن أشهى المأكولات وأطيب الثمرات لا تستساغ ولا تحس بمذاقها وحلاوتها إذا فقد الأمن والأمان ونزل الخوف والهلع، ذلكم أن لا غنى لمخلوق عن الأمن إنسانا كان أم حيوانا أم طائرا.
أيها الإخوة والأخوات:
إن نعمة الأمن منة من الله على هذه الأمة المرحومة، قال تعالى: واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون (الأنفال: 26).
إن نعمة الأمن تشكل مع العافية والرزق الملك الحقيقي للدنيا، فعن عبيد الله بن محصن الأنصاري عن النبي قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (رواه الترمذي وابن ماجة).
إن الديار التي فقد فيها الأمن صحراء قاحلة وإن كانت ذات أنهار وجنات، وإن البلدان التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس وتطمئن فيها القلوب وإن كانت قاحلة جرداء.
عباد الله:
الأمن والإيمان قرينان متلازمان، فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان، قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون (الأنعام: 83)، أي إن المؤمنين الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولا بشيء من شوائبه لهم الأمن والاستقرار والطمأنينة أولئك هم المهتدون.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحيــــاة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينـا
في رحاب الأمن تستقر الحياة، ويأمن الناس على حياتهم، ويستقيم معاشهم ويأمنون على أموالهم وأعراضهم ومحارمهم.
في ظل الأمن يطمئن الساكن في بيته، ويأنس ويرتاح مع أهله وأولاده، ويأمن في حله وترحاله.
لو انفرط عقد الأمن أو تأخر ساعة لرأيت كيف تعم الفوضى وتتعطل المصالح ويكثر العدوان وتنتشر الفتن، وتأملوا رحمكم الله في البلدان التي فقد فيها الأمن فستجدون الواقع ناطقا.
وحتى نحافظ على نعمة الأمن في البلاد لا بد من تربية الأمة على طاعة الله والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته والابتعاد عن مواطن القلاقل والشبهات. إذ إن النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة القانون ولا إلى سلطة الدولة ولا إلى عدل السلطان، لأن رقابة الله والوازع الديني الإيماني في قلب المؤمن يقظ في جميع الأحوال.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر
أيها المسلمون والمسلمات:
إن الأمن على الأموال والأنفس والأعراض لا يتحقق إلا بالأمن الفكري وذلك بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من التيارات المشبوهة التي تعتمد وسائل الإغراء المادي والامتيازات المعنوية لتسميم العقول وتحريف السلوك القويم، فلذلك فإن من الحكمة الواجبة أن نتجنب العواطف الجياشة وردود الفعل المتهورة متسلحين بالعلم والحلم والصبر.
ومما ينبغي إيضاحه في هذا الشأن أن تقنيات التواصل الحديثة هي سلاح ذو حدين، فرغم إيجابياتها المتعددة إلا أن خطرها أشد وأعظم خاصة إذا لم نحسن استعمالها. ولهذا فإن هذه التقنيات من قنوات فضائية وشبكة عنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية لا ينبغي أن نتخذها كمصدر أصلي لتلقي العلم والفتاوى والأحكام.
أيها المسلمون والمسلمات:
في ظل الأمن يمكن للمجتمع أن يتفاهم ويتكامل، وأن يعيش ويتعايش، ولا سبيل إلى ذلك إلا حينما يلتزم كل فرد من أفراد المجتمع كل بحسبه في تحقيق هذا التكامل لأجل بناء مجتمع قوي يشترك فيه أفراده في المحافظة على مصالحه العامة والخاصة، ويدفع كل المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له بأن عليه واجبات للآخرين. إنه التكافل الذي يمزج بين حقوق الفرد والجماعة، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، فالفرد في المجتمع المسلم مسؤول تضامنيا عن حفظ النظام العام، وعن التصرف الذي يمكن أن يسيء إلى المجتمع أو يعطل بعض مصالحه، وهو مأمور بإجادة أدائه الاجتماعي وإتقان واجبه المدني، وفي مقابل ذلك فالجماعة أيضا مسؤولة عن حفظ الفرد وكفالة حقوقه وحرياته الخاصة.
أيها الإخوة والأخوات:
لتكن تهانيكم بالعيد في حدود ما شرع الله، فأنتم في بلد فيه الضعيف والمقعد والسقيم، فيه الأرملة واليتيم، فيه الفقير والمسكين، فيه المغترب والمدين، فكونوا لهم عباد الله نهرا جاريا وقلبا حانيا وبلسما شافيا، فإنهم والله في أشد الحاجة لقلوبكم الرقيقة، وأنفسكم الشفيقة، ليكن لهم نصيب منكم، فوالله إن ذلك من أفضل ما تدخرون من الأعمال.
واعلموا عباد الله أن لباس العيد الذي أمرتم بالتزين به في هذا اليوم السعيد إنما هو زينة للأبدان فلا تنسوا رحمكم الله أن تزينوا القلوب بزينة التقوى والإيمان ولباس التقوى ذلك خير (الأعراف: 25).
اليوم يوم الرحمة والألفة، يوم التصافح والتسامح، يوم توقير الكبير واحترام الصغير، يوم تقبيل الرؤوس واليدين للوالدين، يوم إعطاء لكل ذي حق حقه، يوم التخلص من “الأنا” لأجل الاشتراك مع الأنام.
هذا ولنجعل مسك الختام أفضل الصلاة وأزكى السلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين،…
ادريس أوبري