تخلع نعليها عند العتبة.. تنتابها قشعريرة… يستقبلها عبق التاريخ… تدب قشعريرة في قدميها.. من هنا ولجت فاطمة الفهرية الجامع؛ من هنا ولجت التاريخ.. امرأة تحررت من قيود زينة الذهب والوشي والحرير، وتزينت بأنوار الزهد والعلم.. تحررت من بناء أسوار القصور إلى رحابة التاريخ… تعدت رؤيتها الآفاق.. صنعت تاريخا…!
تستبد بالزائرة الدهشة… تتوضأ بماء يروي خريره بعضا من ملحمة امرأة أنجبت حضارة… ينساب الماء على وجهها، يتلبسها الجمال، تهيم بين مقاماته الضاربة في الأعماق، السامقة عاليا.. تتناغم مقامات جمالية الوضوء وجمالية المكان والزمان.. جمال على جمال…
ترى كم عقول أزهرت هنا، وأثمرت هنا وهناك..؟!
تنعرج نحو اليمين حيث جناح النساء، تصعد بضع درجات.. يسمو بها الجمال عاليا.. تسير على خطا السيدة فاطمة الفهرية…
تصطف الصفوف للصلاة… تنتظم مسلمات أسيويات وأوربيات في صف الصلاة… يتراءى إشعاع الجامع يمتد بعيدا في العالم عبر التاريخ..
“الله أكبر” تلملم الشتات وتوحد الصف…تتماهى روحها وجمالية الصلاة وجمالية المكان والزمان.. يسلّم الإمام… خروج من مقام جمالية الصلاة إلى مقام جمالية كتاب الله… تزهر أصوات صَدَّاحة بترتيل الحزبين.. تصل سورة النور.. نور على نور… يزهر وطننا الحبيب بقراءة الحزب جماعة.. يوحدنا كتاب الله عز وجل…
يطل جناح النساء على صحن الجامع.. وينفتح على السماء.. نساء يشاركن في قراءة الحزبين… تهدهد أم صغيرها بيد، وتمسك المصحف باليد الأخرى… يحتضن الجامع النساء بالتنوير والتعليم عبر التاريخ… كما احتضن في رحابه عالمات ساهمن في تشييد صرحه العلمي…شامخات هن المغربيات!
يستبد بها الذهول وهي تحدق في معالمه الأخّاذة… فن موغل في أبجدية الروح… يفنى الزبد ويخلد الإبداع والفن الأصيل.. تتلألأ مياه النافورة تحت أشعة الشمس.. تهوي إليها طيور ظمأى.. يتماهى الإنسان والطبيعة هنا في لوحة عشق… وكزتها امرأة: “أتزورين جامع القرويين لأول مرة؟!” ، أومأت لها بالنفي وحال لسانها ينطق بعشق دفين.. يأخذها التاريخ في كل زيارة، يحرك في نفسها لواعج شتى… تهم على مضض بمغادرة المكان.. تتجمد أمام عجوز، هي متسوّلة من نوع آخر، تسأل النساء إلحافا بأدب جم؛ تسأل أمرا ثمينا…لا تسأل مالا ولا شيء من عرض الدنيا.. تتربص بالشابات خاصة.. تمسك بمصحف بيدين معروقتين وإصرار كبير.. تسأل بصوت مرتعش يخفي أسرارا شتى: “بنيتي ـالله يعطيك الستر والخيرـ إذا لم يكن لديك أي مانع، أرجوك أقرئيني -ما استطعت- من آيات سورة البينة.. أريد أن أحفظها إن شاء الله”!
تتتبع بسبابتها المجعدة الآيات.. تنضبط تماما للتصحيح كتلميذة مجدة.. تمطر مقرئتها بدعوات من قلب مفعم بالحب والصفاء… لله در القارئة والمقرئة… كلتاهما تسير على خطى فاطمة الفهرية رحمها الله…
تنزل زائرتنا الدرج.. يتشبث قلبها بالمكان كطفل يتشبث بأمه.. تدرك بعضا من أسرار روايات أجدادها بأقصى شمال المغرب، الذين درسوا في القرويين.. كل من زار هذا المكان يترك فيه بعضا منه.. ويحمل بداخله كثيرا من عبقه…
تستوقفها بوّابة الجامع طويلا.. ينتابها حزن فظيع…
بوّابة جامع القرويين الأثرية تستنجد… تتعرض للنهب والسرقة قطعة قطعة…
تاريخنا يسرق؛ ينهب…!
تراثنا يسرق؛ ينهب…!
حضارتنا تسرق؛ تنهب…!
قد يأتي يوم، وتختفي البوابة التحفة بكاملها…
فماذا سنقول للأجيال القادمة؟!
ذة. نبيلة عزوزي