أ- مكانة العقيدة في النظم الاجتماعية الإسلامية:
الإسلام نسق من الأنظمة الربانية القاصدة إلى بناء الإنسان، وفق نمط معين، مصدر هذه الأنظمة القرآن الكريم وعمودها النظام العقدي إذ لا يمكن بحال تصور بناء مجتمع إسلامي دون جعل النظام العقدي محور النظم الأخرى المكونة لهذا النسق فهي الركن الركين الذي به تكون هذه النظم، والمعيار الذي به توزن، والروح الذي به تحيى.
وبما أن البناء يستمد قوته من أساسه، فإن أي خلل يصيب هذا الركن تظهر أعراضه المرضية في الفرد والمجتمع، وإن لم تعالج هذه الأعراض تحولت إلى مرض عضال تصيب عدواه النظم الأخرى.. ذلك أن السلوك البشري الذي هو مدار الحياة الاجتماعية مصدره الأفكار والتصورات العقدية وهذه مبعثها الاعتقاد الذي يمثل الفكرة الأولى للإنسان فيما هو خارج عن حاجته، ذلك أن أعمال العاملين تجري حسب معتقداتهم وأفكارهم، وجدير بمن صلحت عقيدته وأفكاره أن تصدر عنه الأعمال الصالحة في شأنه كله، ولهذا كان أسلوب القرآن الكريم وعادته في الأمر بالأعمال أن يؤسس لها بالإيمان ويقيدها بالعمل الصالح(1)، والآيات في ذلك كثيرة جدا.
وعليه يمكن أن نقرر أن العقيدة هي الأساس الذي تقوم عليه جميع الأنظمة الاجتماعية القرآنية، ومن المستحيل مثلا أن نفصل نظام الحكم في الإسلام عن عقيدة القرآن التي تعتبر الحاكم عبدا لله اختير ليسوس الجماعة الإسلامية بالتشاور مع أفرادها، أو نظام الاجتماع الذي بني في هذه العقيدة على أخوة الإيمان وتكافؤ الدماء، وأن الاقتناع بعدم الفصل ذاته لا يحصل إلا إذا انبثق عن تصور كامل للوجود وخالقه والإنسان ومهمته في الحياة والمقصد من وجوده إذ على هذا الاقتناع وما ينشأ عنه من مفاهيم وتصورات تتأسس المواقف والمبادئ ويتحدد السلوك، ولقد تولى القرآن الكريم تفصيل القول في ذلك، وأولاه اهتماما خاصا مبنيا على الحجج العقلية والبراهين الكونية قصد تحقيق اعتقاد صحيح وتصور سليم للوجود وخالقه(2).
ولمحورية العقيدة كانت هي أول ما اهتم به قول القرآن الكريم وهو يؤسس دولة الإسلام الأولى وعلى النهج ذاته سارت الحركات الإصلاحية الجادة في تاريخ الإسلام لما اتخذها منطلقا أساسيا لتغيير الواقع الاجتماعي المتأزم اجتماعيا أو سياسيا أو أخلاقيا، للتصحيح أو للإحياء والتجديد.
بل إن منهج القرآن الكريم في تقرير نظمه الاجتماعية تميز بربط هذه النظم بنظام العقيدة وتأسيسها عليه في كل مراحل النزول إلى إكمال الدين.
وأضرب لذلك أمثلة:
1 – في نظام الحكم والسياسة والاستخلاف المتمكن بقوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا.. (النور: 55). وقوله تعالى: وقل آمنتت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم (الشورى: 15) وذلك في سياق إقامة الدين والتوحد على نظمه إقامة لأمة الإسلام.
2 – في ضبط العلائق الاجتماعية بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود(المائدة: 1)، وبقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط(المائدة: 8).
3 – في نظام الأسرة بقوله تعالى: ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يومن بالله واليوم الآخر (البقرة: 228). وقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر(الطلاق: 2).
وفي التعقيب على جملة من السلوكات المشينة بالمجتمع وعلائقه، كنقض المواثيق واستحلال الدماء والأعراض والتظاهر على الإثم والعدوان والإيمان ببعض الوحي والكفر ببعضه، والاستكبار، والتكذيب، نجد قوله تعالى قل بيس ما يامركم به إيمانكم إن كنتم مومنين(البقرة: 90) وعلى هذا المنوال بني منهج القرآن في البيان وبناء المجتمع؛ ليسوق الإيمان والتشريع بالبرهان الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان ليتوجه العقل ويتحرك القلب في إطار العقيدة. ولذلك جعل القرآن العقيدة وحدها هي الآصرة الأساس التي يقوم عليها مجتمع الإسلام؛ فهي الرابطة وهي القومية وهي العصبية(3).
ب – الهدى الاجتماعي في عقيدة التوحيد:
للعقيدة القرآنية كليات ترجع إليها وهي التوحيد والرسالة واليوم الآخر وهي القضايا الإيمانية الكبرى التي أقام عليها القرآن نظامه الاجتماعي. وتوحيد الله عز وجل هو القاعدة الأولى التي يقوم عليها التصور الإيماني في القرآن وهي أُسُّ نظمه الاجتماعية، وهي مفرق الطرق بين النظام والفوضى، وبين تحرير البشرية من عقال الأوهام والسلطان الزائف وبين استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم، لذلك كان هذا الحكم الرباني الحاسم في قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (النساء: 48).
ومما جاء في تفسيرها: “أن الشرك منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ومنه تتولد جميع الشرور والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهن، لأنه عبارة عن رفعهم للمخلوقات إلى مرتبة التقديس بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه، وهذا السلوك من وجهة اجتماعية كان سبب استبداد واسعباد كثير من الأقوام والتصرف في أموالهم وأنفسهم ومصالحهم ومنافعهم.
والتوحيد الذي يناقض الشرك هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية… بكل شيء وجعله حرا كريما عزيزا، لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن تخضع الكائنات جميعها لسلطانه، بما أقام فيها من نظام ربط الأسباب بالمسببات(4).
وإن الخلط الذي أصاب كثيرا من الأمم والجماعات على مر العصور البشرية في معنى التوحيد كان السبب الأول والأعظم في الانحراف السلوكي والتدهور الاجتماعي والعمراني والانتكاس السياسي والحضاري عند التخلي عن مضمون قول الله تعالى: ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله (هود: 1-2).
إذ ما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي يقوم أو يستمر، على أسس واضحة فاصلة ثابتة لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة. إلا حين تستقر عقيدة التوحيد بسيطة دقيقة في كل مفاصله.
وعقيدة التوحيد التي احتلت حيزا كبيرا في الخطاب القرآني وشغل تقريرها في نفوس المؤمنين الأول غالب حقبة التنزل القرآني هي بطبيعتها الربانية لا تتحقق إلا بالتمثل العلمي في المجتمع الذي يعتنقها اعتقادا وسلوكا عمليا مستمدا من نظم الشريعة التي تأبى بطبيعتها التكليفية والموضوعية أن تبقى مجرد نظرية في ذهن الأفراد، في أي كيان اجتماعي.
ولهذه المكانة التي لعقيدة التوحيد في البناء الاجتماعي كما حددها القرآن اعتبر المحققون من علماء الإسلام توحيد الله تعالى منتهى الكمال المزكي للنفس والمجتمع، والشرك به سبحانه منتهى النقص والفساد المدنس للفطرة والمجتمع(5).
——————-
1 – لمزيد تفصيل انظر أهوال النظام الاجتماعية في الإسلام 51 للطاهر ابن عاشور طبع مصنع الكتاب-تونس.
2 – مثلا الآية: 20-21-22-164 من البقرة، والآية: 18-190 من آل عمران، والآية: 61-62-63-64-65-66 من النمل إلخ..
3 – ن. تفسير الظلال، 274/5.
4 – ن. تفسير المنار، 5/ 148-149.
5 – تفسير المنار: 1/497 للدكتور محمد عبد الله دراز دراسة رائعة في إثبات النبوة والرسالة من القرآن الكريم ذاته.