تُعنى هذه الزاوية بجمع ما تناثر من نصوص الإعجاز القرآني في غير مصادره المتخصصة، وما تناثر في هذه المصادر لكن لغير مؤلفيها، كما تُعنى بتصنيفها حسب تاريخ وفاة أصحابها، وذلك خدمة لمكتبة هذا العلم، وفتحا لآفاق جديدة للبحث فيه، ومحاولة لإقامة
(الموسوعة التاريخية لنصوص الإعجاز القرآني في التراث العربي).
(تتمة نصوص الطبري (ت310 هـ))
(2)
«القول في تأويل قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه(البقرة: 23).
قال أبو جعفر: وهذا من الله جل ثناؤه احتجاج لنبيه محمد على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(البقرة: 6) وإياهم يخاطب بهذه الآيات، وضرباءهم يعني بها.
قال الله جل ثناؤه لهم: (وإن كنتم) أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين، إن كنتم في شك، وهو الريب، (مما نزلنا على عبدنا) محمد من النور والبرهان وآيات الفرقان، أنه من عندي، وأني الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته؛ لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق. ومن حجة محمد على صدقه، وبرهانه على نبوته، وأن ما جاء به من عندي، عجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله.
وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلَف من رسلي وأنبيائي على صدقه، وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي.
فتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه؛ لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقولا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله؛ لأن محمدا لم يَعْدُ أن يكون بشرا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبسْطة الخلق وذرابة اللسان، فيمكن أن يُظن به اقتدارٌ على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: [...] يعني بذلك: من مثل هذا القرآن حقا وصدقا، لا باطل فيه ولا كذب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: [...] يقول: بسورة مِن مثل هذا القرآن.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد: [...] مثل القرآن [...]
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرناه عنهما، أن الله جل ذكره قال لمن حاجّه في نبيه محمد من الكفار: فأتوا بسورة مِن مثل هذا القرآن، من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل محمد من البشر؛ لأن محمدا بشر مثلكم.
والتأويل الأول الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح؛ لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ(يونس: 38). ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه فيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرت أن الله عنى بقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعن به: ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائرَ الكلام غيرَه. وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان؛ لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي، وكلام العرب -لا شك- له مثل في معنى العربية، فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه.
وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه محمد بما احتج به له عليهم من القرآن، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان؛ إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم، وكلاما نزل بلسانهم، فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلتُ على عبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية؛ إذ كنتم عربا، وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم، وكلام شبيهُ كلامكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدروا أن يقولوا: كلّفتنا ما لو أحسناه أتينا به، وإنا لا نقدر على الإتيان به؛ لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به، فليس لك علينا حجة بهذا؛ لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسننا – لأنا لسنا بأهله – ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به.
ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة من مثله؛ لأن مثله من الألسن ألسنُكم، وأنتم -إن كان محمد اختلقه وافتراه- إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم، أقدر على اختلاقه ورصفه وتأليفه من محمد ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه، فلن تعجزوا وأنتم جميعٌ عما قدَر عليه محمد من ذلك وهو وحيد، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري».
[تفسير الطبري، 1/395-399]