لقد ساد في وسط بعض الدعاة لزمن طويل، أن دورهم في وسط المدعوين، ينحصر في إلقاء الخطب، وإعطاء الدروس، وإعداد الفتاوى، وحل المشاكل العارضة، دون الشعور بتحمل مسؤولية المتابعة، أو الاهتمام بواقع المدعو وسلوكه، أو التأكد من حدوث تغيير إصلاحي على المستوى المجتمعي العام.
ولكن من خلال بعض كتابات السيرة المعاصرة، وخاصة التي هي من النوع التحليلي والفكري، بدأت تتبلور، وتنضج، وتبرز، وتسود في منظومة الدعوة الحديثة، وبين محيط الدعاة منهجية (الدعوة التربوية) والتي يقصد بها جعل الدعوة عملية تنموية مستمرة، تهدف إلى الإنماء والتطوير الشامل عند الداعي والمدعو، ولا تتوقف بانتهاء الموعظة الشفوية العابرة، إنما تنتقل من موقف إلى موقف، ووسيلة إلى أخرى، ليس فقط من أجل إتمام عملية البلاغ والوعظ، إنما لتعين على التطبيق العملي، وتحقيق التربية في صورها المتنوعة عند المدعو.
ولقد تجلت هذه المنهجية الدعوية التربوية على مستوى الدعاة قبل المدعوين، وأكدت على أن نجاحها على مستوى المدعوين، مرتبط بتحققها على مستوى الدعاة مع أنفسهم أولا. وكنتيجة لهذا الفهم، بدأت برامج إعداد وتأهيل الدعاة الفردية والمؤسسية تُعنى بتربية الدعاة ودعمهم روحانيا وفكريا وعلميا، بالقدر الذي يؤهلهم لإعداد وبناء شرائح المدعوين المختلفة.
ولقد كان من أهم الدوافع في تبني وظهور وانتشار هذه المنهجية على مستوى الدعوة المعاصرة هي هذه الوقفات التحليلية التربوية، والتعليقات المصحوبة بالمعاني والإشارات الدعوية، التي نُثرت بدقة، وصِيغت بوعي، وحُررت بفهم بين طيات بعض كتب السير المعاصرة – خاصة – عند تناول أحداث المرحلة المكية، التي تمثل بدء انطلاقة الدعوة. من ذلك على سبيل المثال: قصة(1) اختلائه في غار حراء متعبدا ومتأملا الليالي الطويلة، حتى جاءه الملك بالبشارة وطلائع آيات القرآن. يقول محمد الغزالي: (في غار حراء كان محمد يتعبد، ويصقل قلبه، وينقي روحه، ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه. حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست بها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح)(2) وفي قوله هذا إشارة واضحة لعملية الإعداد والترقي الضروري للداعية قبل بدأ رسالة الدعوة والتبليغ. ولقد كان سعيد البوطي أكثر وضوحا وتركيزا على أهمية الإعداد والتربية للدعاة قبل تحمل رسالة الدعوة. يقول عند تحليله لنفس حدث اختلائه : (فتلك هي العدة الكبرى التي ينبغي أن يتسلح بها الدعاة إلى الله، وتلك هي العدة التي جهز الله بها حبيبه محمدا بأعباء الدعوة الإسلامية)(3).
أما في إطار تربية وإعداد المدعو فتأتي قصة(4) اجتماعه بأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم، في المرحلة المكية، لتكون مادة غنية، يُبْرز من خلالها كتّاب السيرة المعاصرة دور الداعي الأول صلى الله عليه وسلم في مجال تربية المدعوين والارتقاء بهم. يقول الصلابي: (في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة، حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية. وكانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى هي لقاء المدعو بالنبي ، فيحدث للمدعو تحول غريب، واهتداء مفاجئ، فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة)(5) وفي كتاب (النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية) يعقد مؤلفه فصلا كبيرا تحت عنوان (النبي مربيا)(6) يعرض فيه جملة من المواقف التربوية النبوية الحية التي علّم، أو هذّب، أو قوّم، أو وجّه، النبي من خلالها أصحابه، ليصل بهم إلى مستوى القدوات في المجالات المختلفة.
ولم تكتف كتابات السيرة المعاصرة بالتعليق أو التحليل أو الإشارة لأهمية التربية في الدعوة الإسلامية، إنما وجدنا بعضا منها(7) يتخذ موضوع التربية من خلال أحداث السيرة محورا أساسيا لمؤلفه، يعالج كل مفرداتهها بعمق وتخصصية.
ولاشك أن اطلاع دعاة العصر على مثل هذه التحليلات والتعليقات، ودراستهم لهذه الكتابات التي تربط الدعوة بالتربية والتكوين، وتجعل من أهم وظائف الداعية التوجيه والتربية، رسمت ثقافة عامة عند جماهير الدعاة، تُلزم الداعية بواجبات تربوية تجاه نفسه، وتضعه على جملة من المسئوليات التربوية تجاه مدعوه ومجتمعه.
ومن خلال هذه الثقافة التي أنضجتها كتب السير المعاصرة، وأكدت عليها من خلال المصطلحات والألفاظ الدعوية التربوية المشتركة بين هذه الكتب المعاصرة، أصبحت التربية جزءا أصيلا من الدعوة وأهدافها، وبات تحقيقها من جملة ما تسمو إليه الدعوة من إنجازات في واقعها المعاصر. ومن هنا نشأت المنهجية الدعوية التربوية الحديثة، لتعلن عن نفسها في عدة مظاهر من أهمها:
- إقامة المعاهد الدعوية، والدورات التدريبية، والمسابقات التنافسية، والتقييمات الدورية بين الدعاة؛ للتنشيط والتأهيل والتطوير المستمر.
- انتشار شعار (الداعية القدوة) الذي أصبح هدفا في محيط الدعاة، يعملون على تحقيقه والالتزام به، ومعيارا بين المدعوين، يقاس عليه أداء الداعية وكفاءته.
- انتقال المدعو من مستوى المتلقي إلى مستوى المربَى، الذي يحرص على تدبر المعلومة، وتطبيق المعرفة، والاستفادة من الموعظة، وتحقيق التغيير.
- اهتمام الدعاة بقضايا التربية والإصلاح في المجتمعات، والقيام بالمتابعة والرصد، وعلاج الظواهر العامة.
————————
1 – الجامع الصحيح سنن الترمذي، الترمذي، دار إحياء التراث العربي، بيروت تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون.
2 - الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ط 1415ﻫ- 1995. دار الكتاب المصري.
3 – حباة محمد، محمد حسين هيكل، ط التاسعة عشر، دار المعارف، القاهرة.
4 – دراسات في السبرة النبوبة، حسن مؤنس، ط الثانية، 1985م، دار الزهراء للإعلامي العربي، القاهرة.
5 – دراسة في السبرة، عماد الدين خليل ط الثالثة عشر 1991م، دار النفائس، بيروت.
6 – الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها، أحمد غلوش، ط الثانية 1407ﻫ-1987م.
7 - الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، محمد الراوي، ط1965، الدار القومية للطباعة والنشر.