ورد لفظ الإقامة في لسان العرب مصدرا للرباعي أقام المشتق من الثلاثي (ق ا م)، ومدار الرباعي على معنى تعديل الشيء وإقامة اعوجاجه، وإصلاح الأمر، وتشييد البناء وقواعده، وإدامة الفعل والثبات عليه، وإنجازه على وجه تمامه وكماله، وهي المعاني التي غلب وروده بها في القرآن الكريم كما يأتي. لكن ما حجم وروده؟ وما دلالة ذلك؟
ثانيا: حجم حضور (أقام) ومعمولاته في القرآن الكريم:وردت مشتقات لفظ الإقامة في القرآن الكريم 85 مرة (منها 54 مرة صيغة فعلية و31 مرة صيغة اسمية) مما يدل أن القرآن الكريم من مقاصده تحقق الفعل في الواقع من حيث هو فعل حسي ومادي وهو العلة في اكتساب الصفة واستقرارها في النفس.
وسنقتصر في هذا الجانب على الصيغة الفعلية دون الاسمية، كما سنقتصر في استنطاقنا للصيغ الفعلية على جانب معمولات الفعل أي المأمور بإقامته دون الصيغ الصرفية ودلالاتها. وهكذا نلاحظ أن فعل أقام في تصريفاته ورد في الزمن الماضي 15مرة، وفي المضارع 14 مرة، وفي الأمر 25 مرة. مما يفيد أن ورودها غلب عليه طلب تحقيقها وإنجازها أما صيغ الماضي والمضارع فغلب عليها مدح فعلها أو مدح فاعليها.
ثالثا: بحسب الموضوع المطلوب إقامتهالشيء المأمور بإقامته حجم الورود
الدين: مرة واحدة
التوراة والإنجيل: مرتين
الصلاة: 40 مرة
حدود الله: 03 مرات
الشهادة: مرة واحدة
جدار آيل للسقوط : مرة واحدة
الوزن بالقسط : مرتين
الوجه للدين : 04 مرات
دلالات ومقتضيات:
لعل الجدول أعلاه يسعفنا في الجواب عن سؤال مهم هو: ما متعلق ومعمول فعل الإقامة؟ وما الذي طلب من الإنسان إقامته وإنجازه على وجه التمام والكمال بحسب الطاقة البشرية؟ وما قيمة ذلك الممدوح أو المأمور بإقامته؟
1 – إقامة الدين:قد ورد الأمر بإقامة الدين في سورة الشورى عند قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى: 13).
ومضامين هذه الآيات توحي بأن الأمر بإقامة الدين أمر كلي مطلق لكل الناس، وهو القصد من بعثة الرسل كلهم وعليه مدار كل الرسالات، وقد كادت كلمة العلماء تطبق بأن إقامة الدين هي حفظه والعمل به والمداومة على ذلك والثبات عليه في أصوله وفروعه والاجتهاد في الإتيان بتكاليفه على أتم وجوهها وأكملها.
وإذا نظرنا إلى هذا الأصل المأمور بإقامته وجدناه أصلا كليا شاملا لكل ما يدخل تحته كما فصله أبو بكر بن العربي، وما سيرد من الكلام بعد إن هو إلا بيان لجزئيات هذا الكلي، ولذلك نفى الله تعالى عن بني إسرائيل الإيمان والعمل به إن لم يقيموا التوراة والإنجيل ويوفوهما حقهما بالعلم والعمل فقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ (المائدة: 68).
2 – إقامة الوجه: وقد ورد معمولا في ثلاثة مواطن:- مرتين بصيغة الأمر للمفرد المخاطب في قوله تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الإٍسراء: 105)، وفي قوله تعالى أيضا: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم: 30).
وفي هذه الصيغة أمر بالثبات على الدين والإخلاص والاستقامة عليه والاستمرار عليه وعدم الميل والالتفات إلى غيره من الشبهات والضلالات والأهواء والانحرافات، لأن ذلك هو الأصل والفطرة والدين القيم، وبهذا يصير المعنى كما يقول الطاهر بن عاشور: “محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكاً في توجهك” (التحرير والتنوير).
- ومرة بصيغة الجمع المخاطب كما في قوله جل وعلا: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (الأعراف: 29).
وتفيد هذه الصيغة أيضا أن الخطاب موجه للجماعة وليس للفرد بإقامة الوجوه لله والتوجه إليه في كل عبادة وعند أي مكان (مسجد)، وهو كناية على التمحض لله والتجرد له من كل الأهواء والإخلاص والاستقامة على أوامر الله تعالى مع الإخلاص.
3 – إقامة الصلاة:وقد ورد لفظ الصلاة معمولا لفعل أقام بمختلف تصريفاته ومشتقاته حوالي 40 مرة، وهي أكبر نسبة ورد بها لفظ الصلاة معمولا لفعل أقام ولم يرد الأمر بالصلاة حيثما أمر به ولا مدحه حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيها على أن المقصود توفية شرائطها لا الإتيان بهيئاتها فقط كما ذكر الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى. كما نستفيد أيضا:
أن الحديث عن إقامة الصلاة جاء بالصيغ الفعلية الثلاث (ماض، مضارع، أمر) مما يدل على شمول طلب الإقامة لها من كل الناس في كل زمان ومكان، لا يسقط أبدا حتى في حال الحرب.
أن ذكرها والأمر بها لم يرد مفردا وحده ومستقلا عن غيره من المأمورات والممدوحات بل ورد مقرونا دائما بالحديث عن أفعال أخرى مدحا لفعلها ولفاعليها، أو ذما لتركها ولتاركيها، أو أمرا بها ونهيا عن تضييعها؛ وأبرز ذلك: إيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، الخشية من الله تعالى، الإمساك بالكتاب والتمسيك به وتلاوته، التوبة، والأخوة في الدين، الإنفاق في سبيل الله، التمكين في الأرض، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاستجابة لله، الإيمان بالرسل ونصرتهم، والإخلاص…. مما يدل على قيمتها وأهميتها في الإيمان والعمل، فمن أقام الصلاة إقامة صحيحة كان أقدر على إقامة غيرها من أركان الدين الأخرى؛ لذلك جاء في الأثر أن الصلاة عماد الدين.
4 – إقامة حدود الله:ورد هذا المركب الإضافي “حدود الله” معمولا لفعل أقام في أحكام الطلاق والتطليق حرصا على توفية حدود الله التي وضعها الباري تعالى ضمانا لاستقرار الأسرة، قال تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (البقرة: 229).
5 – إقامة الشهادة لله:ورد لفظ الشهادة معمولا لفعل أقام، ومأمورا بإقامته في أحكام الطلاق وحقوق الزوجين أيضا؛ قال تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (الطلاق: 2)، فالأمر هنا بإقامة الشهادة لله في معرض الطلاق والرجعة وانقضاء العدة مهم جدا لما فيه من مصلحة التأليف بينهما ودفع الظلم عن المرأة والإضرار، وحفظ النسب الذي هو من الضرورات الخمس عند العلماء.
واعتبارا للقيمة الكبيرة لإقامة الشهادة لله فقد سُوِّرَ التكليف بها في الحياة الزوجية بأركان الدين الإيمانية والخلقية في أعلى صورها تطبيقا للدين والعدل والتقوى.
6 – إقامة الجدار الآيل للسقوط:ورد فعل أقام متعديا إلى مفعول به هو “جدار يريد أن ينقض” فقال جل وعلا حكاية عن الرجل الصالح وموسى : فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (الكهف: 77). وفي تأويل فعل الإقامة الذي أنكره موسى قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (الكهف: 82).
ولعل ما يستفاد من الإخبار عن إقامة الجدار المتهاوي وما ورد في تسويغ الفعل في قوم بخلاء:
أن المسلم الرباني دأبه دفع المفسدة أنى وجدها وإقامة المصلحة بدلها أنى علمها.
أن المسلم لا يقابل السوء الوارد من الناس -المتمثل هنا بالإعراض عن دفع مفسد الجوع والإشراف على الهلاك- بإهمال رسالته في دفع الشرور وإقامة المصالح على أحسن وجوهها وأتم شرائطها، والإدامة على الصلاح والإصلاح وإقامة الاعوجاجات وسد الاختلالات.
7 – إقامة الوزن بالقسط:ورد لفظ الوزن بالقسط معمولا لفعل أقام في موطنين:الأول:مسندا للإنسان على سبيل إقامة الوزن بالقسط وتوفيته فقال تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (الرحمن: 7– 8 – 9)، ولعل سياق الورود والأمر بإقامة الوزن بالقسط يسعف في استفادة جملة من المعاني منها:
أن الميزان سواء أكان بمعناه الحسي (آلة الوزن) أو بمعناه المجازي (العدل في الحكم والقضاء عامة) هو سنة الله تعالى ونظامه التي يسير عليه الكون تكوينا، وأمر الإنسان بالسير وفقها تكليفا.
الأمر بإقامة الوزن بالقسط والعدل ورد عاما في كل الأمور مما يدل على أنه مقصد شرعي به تستقيم الحياة وبه يعم الخير والأمن والازدهار، وبفقده يكثر الظلم وكل أسباب الحقد والتباغض والتعادي المفضية إلى فساد العمران والاجتماع البشري.
الثاني:أسند فيه فعل الإقامة لله جل وعلا فقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (الكهف: 103-105).
وسياق الآية يفيد ما يلي:
أن لفظ الوزن في الآية يحتمل المعنى الحسي وهو الميزان لوزن أعمال العباد، ويحتمل المعنى المجازي وهو الاعتبار والقيمة.
أن الله تعالى يخبر عباده بما يبطل أعمالهم ويفقدها قيمتها في القبول والاعتبار، وعلى رأٍسها الكفر بآيات الله واليوم الآخر، وهو كفر مفض إلى حبوط الأعمال، وحبوط العمل قرينة على ألا يقيم الله تعالى للعبد وزنا ولا اعتبارا.
أن إقامة الوزن من الله تعالى زمانه الآخرة وهي دار جزاء ناسب طلب إقامتهم للدين وفروعه، فمن أقام ما طلب منه أقيم له الوزن، ومن لا فلا إلا أن يتغمد الله عباده برحمته وعفوه.
خلاصات:
مما سبق يمكن استخلاص خلاصات كبرى، لعل من أبرزها ما يلي:
- أن فعل أقام ومشتقاته الصرفية له حضور مهم في القرآن الكريم لأن معمولاته شملت كليات الدين وجزئياته، أصوله وفروعه.
- أن مدار فعل أقام على الإتيان بالمأمور به أو الممدوح على وجه التمام والكمال والديمومة والاستقرار والثبات والثبوت، ورعاية الأصلح للعباد في معاشهم ومعادهم وهو الحكمة من بعثة الرسل وتشريع التكاليف.
- أن أغلب معمول لفعل أقام هو الصلاة، وقرنت دوما بإتيان الزكاة، وتكاليف أخرى هي من أصول الدين الإيمانية وكلياته القطعية في الأخلاق والمعلوم من الدين بالضرورة مما لا يتصور تدين صحيح إلا بها، كما لا يتصور صلاح أو إصلاح إلا بها.
- أن التكاليف الشرعية فيها قدر من المشقة ومخالفة الهوى وغالبا ما يحدث أن تنازع فيها النفس فتميل إلى شهوات أو شبهات فلا يؤديها الإنسان كاملة لذلك كان الأمر بإقامتها دالا على معنى بذل الجهد في توفية إقامة تكاليف الشرع مع الإخلاص لله وصدق التوجه إليه..
والله أعلم وأحكم.