لما هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، انتقل من واد غير ذي زرع إلى واد خصيب. خصيب بتربته ونخله وزرعه وضرعه، وخصيب بالإيمان، حتى سميت المدينة (الدار والإيمان)، وخصيب بشعره الفياض. وعند ابن سلام الجمحي أن المدينة أشعر القرى العربية. ولم يكن الشعر في مكة كثيرا، كما لم يكن قد دخل معركة الحق والباطل. ولكن الشعر في المدينة، وقد كان عندهم وافرا في الجاهلية، اتسعت مذاهبه، وتنوعت أغراضه، ولان منطقه، وتطورت أشكاله. وكان من أسباب ذلك أن دخل الشعر في المعركة، فراح المشركون يعترضون طريق الدعوة، ويتعرضون لصاحبها، عليه أفضل الصلاة والسلام، بالغمز واللمز والهجاء، ويسعون إلى نصر باطلهم، وإحياء ما اندرس من قيمهم التي عفى عليه الإسلام، عندئذ استنهض رسول الله شعراء المسلمين، وحثهم على تجريد ألسنتهم والتصدي لهجمات المشركين، وقال لهم: “ما منع الذين نصروا الله ورسوله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم”. وانتدب لتلك الرسالة شعراء عرفوا بشعراء الرسول، وعلى رأسهم الثلاثة المشهورون: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. ومنذ ذلك التاريخ صار للشعر والأدب في حضارتنا المنزلة الرفيعة، فنبغ فيها من فاخر بهم الزمان. ولما آلت هذه الأمة إلى الانحطاط الذي ما تزال آثاره مهيمنة ضرب الجهل بجرانه، واستخففنا بما جعل له الرسول الكريم المكانة العالية عندما قال: «إن من الشعر لحكمة»، و «إنّ من البيان لسحرا»، وتخلفنا عن الركب حتى في ميدان كان لنا فيه قصب السبق، فآلت الجوائز العالمية، ومنها جائزة نوبل، إلى شعراء من أوربا وأمريكا الجنوبية وآسيا، وعلى رأسهم شاعر شيلي بابلو نيرودا، وأضحت أمة الشعر تتسول الشعر على أبواب غيرها من الأمم.
وعندما كانت أول غزوة غزاها رسول الله ، وهي غزوة بدر الكبرى، قعقع السنان، وآزره اللسان، فقامت معركة شعرية كبرى خلد التاريخ آثارها.
ومما يقوي هذا أن معركة الشعر لم تكن وقفا على الرجال، بل كانت للمرأة فيها أثر مشهود. فمنهنّ هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، فقد قُتل المقرّبون من أهلها يوم بدر، ومنهم أبوها، الذي رثته بقولها:
أعينيّ جُــــــــودا بدمــــــــــــــــــع سَرِبْ
على خيرِ خِنْدِفَ لم ينْقـــــلـــــــــــبْ
تداعــــــى لـــه رهطُــــــــهُ غُــــــــــدْوةً
بنو هــــاشمٍ وبنـو الــــمُــطّـــلــــــبْ
يُـــــــــــذيقــــونهُ حَـــــدَّ أســــيافِهِـــمْ
يَــعُـــلّــونهُ بعْــدما قـدْ عــــطــــــِـبْ
يجُـــرّونـــــه وعفيــــرُ التّــــــــــــــرابِ
على وجهه عــارياً قـــدْ سُـــــــــــلِبْ
وكـــــــانَ لنـــــا جــــــــــــــبلا راســياً
جمــيـــلَ الـــمَـــرَاةِ كثير العُـــشُــبْ
وخندف: فرع من القبيلة. وجميل المرَاةِ: أي بهيّ الطلعة.
ومن بديع شعر النساء الذي قيل يوم بدر، شعر قالته قَتيلةُ بنت النضر بن الحارث، ترثي أباها، وكان قُتل يوم بدر، وكان يظاهرُ المشركين على المسلمين:
يا راكبــاً إنّ الأثيـــــــــــــــــــــلَ مظنّـةٌ
منْ صُـبْــحِ خــــامسةٍ وأنت مــوفّقُ
أبلــــغْ بهـــا ميْــتـــاً بـــأنَ تحيّــــــــــــةً
مـــا إن تزال ُ بهــا النّجــائبُ تخْـفقُ
منّــي إليكَ وعَبْــرةً مسفــــــــــــوحةً
جادتْ بـــواكفها وأخرى تــخْــنقُ
هـلْ يسْــمَــعَنّــي النّـــضْرُ إن نــــاديتهُ
أم كيف يسمَــــعُ ميّــتٌ لا ينطــقُ؟
ثم توجّتْ بالخطاب إلى الرسول عليه السلام قائلة:
أمحَـــــمَّــــدٌ يـــا خيْــر ضِنْءِ كريــمــــــــةٍ
في قومهـــا، والفحْـــلُ فحْـــلٌ مُعْـرِقُ
مـــا كـــانَ ضَـــــــــرّكَ لـــو مننتَ وربّمــــــا
مــنّ الفتى وهْــو المغيـظ الــــمُـحْــقُ
أو كنتَ قـــــــابلَ فــــــدْيــــــــة فلَيُنْفَقَـــنْ
بأعـزَّ ما يغلـو به مـــا يُــنْـــفَــــــــقُ
فالنضْــــرُ أقــــربُ من أسِـــرْتَ قــــــــــرابةً
وأحقّـــــهمْ إن كان عتـقٌ يُعْـتـــــــَقُ
ظــلّـــتْ سيــــوفُ بني أبيـــــه تَــنُــــوشُـــهُ
لله أرحامٌ هنـــــــــاكَ تُــشَــــقّـــقُ
صبْـــــراً يُقــــــادُ إلى المنيّـةِ متْعـــــــــــــــباً
رسْـــفَ المقيّــدِ وهْـــو عـــانٍ موثـَـقُ
قال ابن هشام: فيقال والله أعلم: إنّ رسول الله لــمّــا بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغت هذا قبل قتله، لمننتُ عليه». إشارة إلى قولها: “ما كان ضرّك لو مننتَ”.
فالشــــاعرة في هذه الأبيات توجه الخطاب إلى راكب متوجه نحو الأثيل، وهو موضع قريب من المكان الذي قتل فيه أبوها، وهو لن يتجاوز اليوم الخامس حتى يصل، إذ من عادة العرب أن تمنع الماء عن الماء أربع ليال، ثم توردها في اليوم الخامس. وهي تحمّــله تحية إلى ذلك الميت بها، تعني أباها، وأن تلك التحية تحملها النجائب خفاقة بها، أي الإبل الكريمة. كما تحمله دموعها الواكفة المتوالية. وهي في شك من أمرها: أيسمعها النضر؟ (أم كيف يسمع ميّتٌ لا ينطقُ). والأداة “أم” هنا، بمعنى “بل”، أي إنها تضرب على كلامها الأول وتثبت إن الذي مات لا يسمع ولا ينطق.
وأهم ما توجهت به قتيلة إلى رسول الله في الخطاب أنه من أصل كريم، وأن من شأن من كان كذلك ألا يضره أن يمنّ على أسيره حتى ولو كان مغيظا غاضبا. وتمنت لو كان قَــبِلَ الفداء فيه، إذن لفدته وفداه أهله بأعز ما يفدى به المرء، ولأنفقوا في ذلك الفداء أغلى ما ينفق. وتذكره عليه السلام بالقرابة القائمة بينه وبين النّضر، إذ كان هو أيضا قرشيّا، فذلك يجعله أحق الأسرى بالفدية. ثم تصور مأساة موته، حيث لم تكن السيوف التي تناولته غير سيوف بني أبيه وأقربائه، وأنه اقتيد إلى القتل صبرا وهو يرسف في القيود. فكان من حق هذا الشعر أن يؤثر في سامعيه، وما أحرى رواية ابن هشام التي ختم بها هذا الحديث أن تكون حقا وصدقا.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني