تقديم:
معلوم أن القضايا المرتبطة بالوحي مثل مباحث أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات القرآنية، مباحث مهمة في علوم القرآن، والتي لها وظيفة بيانية وتوثيقية خادمة للنص القرآني، وليست علوما تاريخية، استدعتها الضرورة التاريخية في زمن معين، ثم انتهت مدة صلاحيتها. وقد عمل علماء الأمة على تطويرها وتدوينها، وتوظيفها في دراستها للنص القرآني، ولا زالت تؤدي نفس الوظيفة حتى عصرنا الحالي، وإن كانت تحتاج إلى تجديد وتأهيل وفقا لسنة التجدد والتطور الذي يتسم بها العقل البشري، عموما والعقل الإسلامي خصوصا.
وإذا كانت هذه المباحث حاضرة في الدراسات القرآنية الحديثة، لدى كثير من المفكرين المعاصرين التي تعنى بالقراءة التجديدية للتراث، فإن حضورها أبرز وأخص لدى التيارات الحداثية التي تسعى إلى التحديث وإلى الانتقال من المضامين التراثية إلى المضامين الحداثية عبر ما يسمى بالقراءة الجديدة للنص الديني على غرار ما وقع في الفكر الأوروبي والنصوص الدينية للتوراة والأناجيل.
هذه القراءة الحداثية للنص القرآني تميزت بنقدها الشديد للتراث عموما والنص الشرعي خصوصا وما أحاط به من علوم: مستنبطة منه، أو خادمة له، ودعت إلى إعادة قراءته من جديد وفق منهج وتصور خاص بها، نعرض له من خلال هذه الورقات.
مفهوم النص القرآني عند نصر حامد أبو زيد:
ينطلق نصر حامد أبو زيد في دراسته حول مفهوم النص وعلوم القرآن من كون النص القرآني نصاً لغوياً تم إنتاجه في ظروف محددة، فهو منتَج ثقافي، “ولأن ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر”(1) ، فهو تشكل في بيئة ثقافية معينة، وفي فترة زمنية محددة، وأن السبيل إلى فهم معانيه هو منهج التحليل اللغوي؛ لأنه نص لغوي ينتمي إلى بنية ثقافية محدودة، تم إنتاجها طبقاً لتلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي.
ويهدف -أبو زيد- من خلال هذه الدراسة إلى تحقيق هدفين هما: إعادة ربط الدراسات القرآنية بمجال الدراسات الأدبية والنقدية. ثم تحديد مفهوم “موضوعي” للإسلام يتجاوز فيه الطرح الأيديولوجي.
وانطلق في مشروعه هذا بانتقاد الفكر الإسلامي مُتَّهِماً إياه بالرجعية وأنه أنتج تصورا دينيا عزل النص عن سياق ظروفه الموضوعية التاريخية التي تشكل فيها، ثم بعد ذلك صبغه بالقداسة، “إن هذا التحويل لطبيعة النص ومن ثم لوظيفته كان محصلة لمجمل اتجاهات الثقافة المسيطرة الثقافة الرجعية”(1). هذه الصبغة القدسية للنص القرآني اعتبرها أبو زيد عائقا أمام القراءة البشرية له.
إن حقيقة النص عند أبي زيد أنه تكون من الواقع التاريخي للعرب، وليس نصا أنزله الله تعالى من السماء على البشر هداية لهم إلى الصراط المستقيم، وهو بهذا يلغي فكرة التنزيل.
الظاهرة القرآنية عند محمد أركون:
يرفض أركون تسمية “القرآن” الكريم، ويعوضها ب”الظاهرة القرآنية”؛ لأن كلمة “قرآن” “مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية والطقوس الشعائرية”، ولأنها تقف عائقا أمام المراجعة النقدية الجذرية للتراث الإسلامي وإعادة تشكليه. فأركون يتحدث عن الظاهرة القرآنية كما يتحدث عن الظواهر العلمية والاجتماعية، ويهدف من وراء ذلك إلى “وضع كل التركيبات العقائدية الإسلامية وكل التحديثات اللاهوتية والتشريعية والأدبية والبلاغية والتفسيرية.. إلخ على مسافة نقدية كافية كباحث علمي”(3).
إنه يرفض التعريف التبسيطي للوحي، وعبارات “قال الله تعالى” عند بداية الاستشهاد، و”صدق الله العظيم” عند الانتهاء منه؛ لأن ذلك يغلق مجال المناقشة حول التأليف، أو حول النص المستشهد به(4). ويعيد تعريف القرآن من جديد باعتباره حدثا يحصل أول مرة في التاريخ، فهو “التجلي التاريخي لخطاب شفهي، في زمن ومكان محددين”(5). فأركون يعرف القرآن الكريم بكونه خطابا شفهيا، ويفرق بينه وبين القرآن المدون في المصحف؛ لأن عملية الانتقال من القرآن الشفهي الذي تلفظ به النبي طيلة ثلاثة وعشرين سنة إلى القرآن المجموع والمدون في الصحف، عرفت عدة ملابسات مؤثرة من حذف، وانتخاب، وتلاعب، فعملية الجمع مرت في جو من الصراع على السلطة والمشروعية.
هذه الظروف والملابسات التي صاحبت جمع القرآن وتدوينه فرضت -حسب أركون- إعادة كتابة قصة تشكل النص القرآني. وهو ما حاوله في كتاباته النظرية أو التطبيقية، ولم يوفق في مسعاه، فوقف عند الهدم ولم يَبْنِ شيئا.
جمع القرآن وتدوينه عند محمد عابد الجابري:
تعامل الجابري مع قضية جمع القرآن الكريم وتدوينه بمنهج خاص به يجمع بين التشكيك في الروايات الحديثية، وبين البحث عن الروايات الشاذة المرفوضة لدى علماء الأمة، وبين الانتقائية في الأخذ بالروايات الحديثية الخاص بالجمع والتدوين، مع إحيائه لشبهات المستشرقين المتهافتة.
جمع القرآن الكريم وتدوينه -حسب الجابري- من قبل الخليفة الثالث عثمان بن عفان شابته مجموعة اختلالات، ويبين الجابري ذلك بقوله: “كان مفرقا قبل تدوين مصحف عثمان، وقد حدثت فيه أخطاء ونسيان وتبديل وحذف ومحو”، ثم شكك بعد ذلك حتى في بقاء مصحف عثمان دون تغيير، وكانت خلاصة بحثه في الموضوع، “أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه زمن عثمان. أما قبل ذلك، فالقرآن كان مفرقا في “صحف” وفي صدور الصحابة، ومن المؤكد أن ما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذلك من القرآن مكتوبا أو محفوظا كان يختلف عما هو عند غيره كمّا وترتيبا، ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه، زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين. وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(6). فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والنسخ”(7).
هذه رؤيته لجمع القرآن وتدوينه، رؤية تشكيكية، وتأويل خاص للآية الكريمة المبينة لحفظ الله تعالى للقرآن الكريم، وهذا جمع بين المتناقضات.
عبد الجواد ياسين وأسباب النزول استكمال النص بأثر رجعي:
وفي نفس الاتجاه تسير قراءة المستشار جواد عبد الحميد في كتابه “الدين والتدين”(8)، الذي ينطلق فيه من أن النص الديني يتضمن ما هو مطلق ثابت، وهو الإيمان بالله تعالى وبالأخلاق الكلية، وما هو نسبي متغير مرتبط بالاجتماع والتاريخ، لا يمكن إلحاقه بالدين، ألا وهو التشريع؛ لأنه مرتبط بما هو اجتماعي متغير تضخم عبر الزمن وصار أكبر مما هو مطلق ثابت في البنية الدينية، وبالتالي نال صفة القداسة.
من هذه الرؤية للنص الديني يصدر الكاتب رأيه في طبيعة وبنية النص الديني، محاولا تسليط الضوء على تأثير التاريخ والاجتماع في تشكيل النص الديني.
في هذا الإطار يصنف علوم القرآن، الصادرة عن ثقافة عصر التدوين التي تطور إليها التدين الإسلامي، في القرنين الثاني والثالث الهجريين “تبلورت علوم القرآن كعنوان مستقل في وقت متأخر، ومع ذلك فإن مقولاتها الأولية ترجع إلى الملابسات المبكرة لعملية جمع القرآن التي أسفرت عن إنشاء المصحف، وما صاحبها، في غضون الفتنة، من مطاعن تتعلق بمبدأ الجمع، وترتيب السور والآيات، وما عرف بنسخ التلاوة. ودفع بها إلى تبني مقولة النزول المسبق والمجمل للقرآن، كما تم جمعه أو قريبا منه، في اللوح المحفوظ”(9).
وفكرة الكاتب هي تقسيم النص إلى قسمين: منه ما هو إيماني صحيح، بقي مطلقا، لم يتغير، ومنه ما هو تشريعي متعلق بأفعال الناس، نرفضه لأنه يعكس تأثير الواقع الاجتماعي العربي في النص الديني. وهذا يتطابق مع مقولة: فصل الدين عن الدولة.
خلاصة:
تنطلق هذه القراءة الحداثية للنص الشرعي من مضامين الحداثة الغربية وأسسها وجعلها النموذج الأمثل للبشرية، وسعيها لإلحاق الفكر الإسلامي بهذه الحداثة، وتبينت أطروحة الاستشراق التي عملت على تطويرها. ووظفت مناهج البحث في العلوم الاجتماعية واللسانية المعاصرة، التي وظفها الفكر الغربي لاختبار مدى صدقية النصوص الدينية القديمة، وإثارة الشبهات حولها، والحكم على قيمتها التاريخية، وإسقاط نتائج إعمال هذه المناهج الغربية في النصوص الدينية اليهودية والمسيحية على النصوص الشرعية الإسلامية، رغم وجود فارق كبير بين الحالتين.
وهذا ما ترتب عنه فوضى كبيرة في القراءة والتأويل، وغياب المعرفة اليقينية، وأدى إلى فقدان الموضوعية وضياع المعنى الشرعي في القراءة الحداثية…
د. محمد البويسفي
———————-
1 – مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت : 1990م. ص24 .
2 – مفهوم النص نصر أبو زيد: ص 14.
3 – الفكر الأصولي، واستحالة التأصيل، محمد أركون. ترجمة هاشم صالح. دار الساقي، بيروت. ط2. سنة 2002، ص 200.
4 – القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح. دار الطليعة، بيروت. ط1. سنة 2001، صر 17.
5 – قضايا في نقد العقل الديني، أركون، ترجمة هاشم صالح. دار الطليعة، بيروت. ط2. سنة 2000، ص 186.
6 – سورة الحجر: الآية 9.
7 – مدخل إلى القرآن، الجابري، طبعة بيروت، سنة 2007م، ص 232.
8 – الدين والتدين، التشريع والنص والاجتماع، عبد الجواد ياسين، التنوير، بيروت، ط1. سنة 2012م.
9 – الدين والتدين، التشريع والنص والاجتماع، عبد الجواد ياسين، ص 74.