بدأنا في الحلقة الماضية (5) المحجة عدد 482 بمناقشة ضوابط ترتيب أحرف المباني في مخارجها وأحيازها عند كل من الخليل وسيبويه، وكان الهدف من ذلك هو التنبيه إلى دقة ترتيبها عند الخليل في ذلك الظرف بضوابط معينة، وما نتج، وينتج عن تلك الضوابط من تحديد وظائف أحرف المباني أو بعضها العامة والخاصة في بنية الكلمة. ثم مقارنة ما جاء من ذلك عند سيبويه لأجل عرضه على رأي ابن جني الذي فضل ترتيب سيبويه على ترتيب الخليل. وقد بدأنا بعرض نماذج من ضوابط الخليل في هذا المجال في الحلقة المشار إليها. وختمنا ببدء مناقشة وظائف أحرف حيزي الذلق والشفتين، ورأينا حرص الخليل الشديد في النص الذي ختمنا به على التمييز بين سمات أحرف هذين الحيزين ووظائفها، ووظائف أحرف بقية الأحياز مما جعلنا نختم بسؤال هو: لماذا هذا الحرص الشديد على التمييز بين أحرف الذلق والشفتين وبقية أحرف المباني عند الخليل؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل نقول: يبدو أن مضمون هذه اللقطة الدراسية عند الخليل ينبغي أن تكون حاضرة بقوة في مقدمة التنظير لقواعد اللغة العربية المتميزة في كل زمان!
في هذا السياق نذكر ببعض العبارات الواردة في النص السابق في الحلقة الخامسة مثل قوله: “وإنما سميت هذه الحروف ذُلْقاً لأن الذلاقة في النطق إنما هي بطرف أسلة اللسان والشفتين”. فنحن نلاحظ هنا أسس تعليل التسمية التي هي النطق بطرف هذا العضو المتميز بين أعضاء النطق عند الإنسان الذي هو “اللسان”، وقد عطفت عليه الشفتان في نفس الوظيفة. وبهذا العضو سمى الحق سبحانه وتعالى وسيلة البيان وميزها، قال الحق سبحانه: “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم”(إبراهيم: 4). هكذا نفهم من هذه الآية أن أداة البيان التي تقوم بها الحجة على المخاطب هي اللسان، وليس مطلق اللسان، وإنما هو اللسان الخاص بالمخاطب كما ينص على ذلك المضاف إليه في الآية المذكورة ﴿لسان قومه.
وقوله بخصوص أحرف الشفتين “…لا تعمل الشفتان في شيء من الحروف الصحاح إلا في هذه الأحرف الثلاثة فقط…”
هذه العبارة أيضا قوية في مجملها بأدواتها التي تتضمنها أداة الحصر “إلا” بعد النفي “لا”… ثم تقييد هذه الحروف المقصودة بصفة “الصحاح” إخراجا لأحرف اللين (العلة) والهمزة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الحلقة الماضية.
والعبارة الثالثة الخاصة بتمييز هذه الحروف هي قوله: “ولا ينطق اللسان إلا بالراء واللام، والنون”.
لهذا وغيره مما لم يذكر بخصوصية الأحرف المذكورة قلنا: إن هذه الالتفاتة ينبغي أن تكون حاضرة باستمرار.
هكذا يتضح أن الخليل لم ينص على تمييز أحرف الذلق والشفتين عبثا، وإنما فعل هذا لما تتميز به هذه الحروف عن سواها، من ذلك ما يلي:
أ – يبدو أن هذه الحروف الستة أكثر استعمالا من غيرها من الحروف في الكلام العربي؛ وفي هذا السياق يقول الخليل: “فلما ذلقت الحروف الستة، وهذل بهن اللسان، وسهلت عليه في المنطق كثرت في أبنية الكلام، فليس شيء من بناء الخماسي التام يعرى منها أو من بعضها” (ع1/52)
ب – تعتبر هذه الحروف معيارا من معايير التمييز بين الكلمات العربية والأجنبية الدخيلة، وفي هذا يقول الخليل: “فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معراة من حروف الذَّلق أو الشفوية، ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب؛ لأنك لست واجدا من يسمع من كلام العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من حروف الذَّلق والشفوية واحدا أو اثنان أو أكثر. قال الليث: قلت: فكيف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غير مشوبة بشيء من هذه الحروف؟ نحو الكَشَعْثَج، والخَضَعْثَج وأشباههن. فهذه مولدات في كلام العرب؛ لأنه ليس فيهن شيء من حروف الذلق والشفوية، فلا تقولن منها شيئا وإن أشبه لفظهم وتأليفهم، فإن النحارير منهم ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت.
وأما البناء الرباعي المنبسط فإن الجمهور الأعظم منه لا يعرى من الحروف الذلق أو بعضها إلا كلمات نحو عشر [عشرين] كن شواذ…” ع1/52-53
هكذا تعتبر هذه الحروف الستة ميزانا للكلمات العربية للتمييز بينها وبين الأجنبية الدخيلة، ولا ينبغي اعتبار هذا الإجراء سلبيا بحمله على التعصب للذات ورفض ما عند الآخر، وإنما هو من باب الاحتياط للذات من الدخيل المغرض فقط. وهذا مما تفسره عبارة الخليل في النص قبله: “فإن النحارير منهم ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادةَ اللبس والتعنيت”، وذلك لأن اللغة محضن الأفكار والمفاهيم الحضارية المتباينة بين الأمم والشعوب، فما هو مقبول ومرغوب فيه في حياة البعض، قد يكون ممنوعا ومرفوضا عند غيره. هذا مع العلم أن اللغة العربية لا تسد الأبواب بينها وبين اللغات الإنسانية بصفة مطلقة، فقد اقترضت الكثير من الكلمات عبر مراحل التاريخ لكن بضوابط واقية من تحريف نظام أبنية اللغة وقواعدها من جهة، واتقاء من أعمال النحارير كما أشار إليه الخليل من جهة ثانية.
تلك هي نماذج من الضوابط المعتمدة عند الخليل في ترتيب أحرف المباني وتصنيفها وفق مخارجها وأحيازها.
وتلك نماذج من وظائفها الخاصة والعامة، أوردناها مرقمة في الحلقتين الخامسة والسادسة (المحجة ع 482 وع 483) حتى تسهل الإحالة عليها عند الاقتضاء، ولا يزال ثمة ما يمكن إضافته في هذا المجال -عند الخليل- مما يتعلق بخصائص بعض أحرف المباني، بالإضافة إلى الإحصاء العام لعدد أنواع الأبنية الأسس في اللغة العربية، وما اتسم به بعضها من نقص بعض أحرف البنية شكلا، واستحضار الإجراء المعتمد لاعتباره معنى، وهو ما سنحاول أن نلخصه في حلقة خاصة إن شاء الله، بعد مناقشة ضوابط تنظيم أحرف المباني وفق مخارجها وأحيازها عند سيبويه ومقارنتها بما ذكرناه عند الخليل لتقييم رأي ابن جني في الموضوع!
والذي لا ينبغي إغفاله في هذا المجال هو الانتباه إلى دلالات بعض العبارات الملحة على ضبط معالم مسيرة التنظير في المجال اللغوي كتنبيه الخليل -رحمه الله- إلى ضبط وظائف أحرف الذلاقة والشفتين التي تعتبر معيارا للتمييز بين الكلمات العربية والدخيلة. والتحذير من أعمال المغرضين من الأمم والشعوب المعادية التي تروم إفساد أسس قواعد اللغة بإدخال كلمات ذات مضامين محرفة للمفاهيم، وهو ما عبر عنه بقوله -في النص قبله-: “فإن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت”.
ودون أن نقف عند دلالات كل كلمات هذا النص نعرض دلالة كلمة نحرير التي هي محور النص كما يلي: يقول ابن منظور: “… والنحر، والنحرير: الحاذق، الماهر المجرب، وقيل: النحرير الرجل البَطِن [العالم بباطن الأمور] المتقن، البصير في كل شيء.
وفي حديث حذيفة، “وكلت الفتنة بثلاثة: بإلحاد النحرير، وهو الفطن البصير بكل شيء” ع5 مادة نحر.
ويقول ابن فارس: “… والعالم بالشيء المجرب نحرير وهو إن كان من القياس الذي ذكرناه بمعنى أنه ينحر العلم نحرا كقولك: فتلت هذا الشيء علما” (معجم مقاييس اللغة، 5 مادة نحر).
ومما يدل على أن الخليل لا يسد باب الاقتراض الإيجابي من اللغات الإنسانية بالمرة هو استعماله لكلمة “رب” التي تفيد عدم تعميم هذا الحكم على كل أهل العلم في المجتمع الإنساني، وهنا ننبه فقط إلى ما وقع ويقع من الصراع الحضاري في بعض مراحل الأمة الإسلامية كالشعوبية والاستشراق والحداثة! وهذه محطات تاريخية لا تخلو من أعمال النحارير المغرضة، وهذا ما حذر منه الخليل يرحمه الله.