قد يتيه بك المقام فتشدّ الرّحال إلى تاج محلّ، وأنت تقرأ العنوان أعلاه، وتستقرئ من التاريخ مباهج حضوره في الذاكرة الإنسانية، مَعْلَمًا توّج المسلم الإنسان بمعنى جميل، ورفعه عليّا حين قدّر في عمقه المرأة، وأحبّها أما وأختا وزوجة، ونسج لها من وحي هذا الحبّ ما يصنع الإضافة، ويرتقي بالشعور الإنساني إلى ما يتمنّاه كل منتمي لدين الفطرة.
نستجمع الطاقة هنا ليكون شاه جيهان، واجهة الحضور لهذه المعاني، وواجهة الخلود لها أيضا ممتاز، هذه المرأة التي حين أحبّها شاه جيهان بصدق المسلم، أهدى لها قصرا هو تاج محل المزروع في الهند بحديقته الغنّاء دون عقد، وأهدانا جمالا خاصا: هو جمال السخاء والعطاء، ليؤكد أنّ قلب المؤمن حين يحب، يعطي بلا حساب للتّمكين للفاعلية الإنسانية بين الزوجين، هذه الفاعلية التي تتّسع بميثاق الله فترفض الحب الذي يقتل الأنفاس، وتبعث صدقا آخر تشّده إلى السماء خيوط الإحساس اليومي بالوجود الذي يبدأ في هذا المقام بتقدير الزوجة وتكريمها بما يليق وبما دعا له الإسلام.
كنت كثيرا ما أتساءل بيني وبين نفسي من أيّ طينة هو، كي يهديها ما صار مع تعاقب الأزمان عجيبة من عجائب الدنيا السبع، وهل شاه جيهان الحكاية الخالدة والمودة الصامدة يمكن أن يتكرّر بكل هذا الوجد؟ أم أنّه نموذج قد انقرض مع معطيات الحياة الزوجية المعاصرة التي أصبحت بفعل الفهم الخاطئ للحداثة أوهن من خيوط العنكبوت.
ولكن ما رأته عيناي، وأنا أناقش رفقة أساتذتي الأفاضل الأجلاء رسالة دكتوراه حول ترجمات مي زيادة ،لطالبة صابرة ومجاهدة تحدّت ظروفها الصحية العصيبة وقاومت مرضها المضني منتشية بانتصارها على كل ألم، كان فوق الوصف.
إذ وبعد انتهاء المناقشة وتتويج الطالبة بدرجة الدكتوراه مع التهنئة، فوجئنا برجل فريد من نوعه يتقدّم إلينا، ليستأذن اللجنة في قول كلمة، فكان له ما أراد.
بدأَنا بالحديث عن صمود زوجته أمام المرض وإصرارها المكين في الخروج من المستشفى، وهي على تعبها ومرضها من أجل المناقشة، مهما كانت التبعات، ثم ّ ما فتئ وأن أخرج في حياء، تاجا من ذهب ورفعَه إلينا قائلا: لم أجد أمام صبرها وطموحها وحرصها في تحدي مرضها، محبّة في العلم والمعرفة -وأنَا من عايَش آلامها الكبيرةـ إلاّ هذا التّاج أضعه على رأسها، عرفانا لها بجميل الصبر، وتقديرا لها على تحدّيها لقهر المرض، بالنّجاح الذي تعيش نشوته بينكم بكل هذه الطاقة، ثم تقدّم إليها خطوات، ووضع التّاج على رأسها في غمرة من دموع فاعل.
ومن يدري لعله يكون تاج الشفاء المأمول في غمرة من أمل في الله كبير.
يا الله كم كان المشهد أكثر من
إنساني، فقد أبكانا جميعا بلا استثناء، وأهدانا لحظات هي أشبه ما تكون بالحلم.
المعنى ليس تاج الذهب في ذاته -وإن كان الذهب أعز ما تحبّ النّساء عموما- وإنّما في السّلوك الرّاقي الذي لبسه هذا الزوج، وهو يعيش إشراقه الرّوح المؤمنة فيكرّم زوجته في عرسها الثاني، المليء بالفخر والاعتزاز، ليؤكد لها ولنا أنّ نموذج شاه جيهان المسلم، قد يتكرّر متى توفّر الصدق والإيمان، وتحرّكَتْ المواجد بمسالك روحية نحو السموّ بالعلاقة الزوجية إلى المستوى الذي يستشعر فيه الإنسان أن الامتلاء هو أن تحبّ بصدق وتضحي بصدق وتُهْدي بصدق، ومن ثَمَّ تتفاعل مع الحياة ومع العلم ومع المرأة بما يجب فتعطي لكل مقام قدره بعيدا عن أي مزايدة أو تفاخر، ليصبح التّاج في هذا المقام لهذه الباحثة الصامدة تاجين: تاج الأدب وتاج الذهب وبين التاجين رقي فريد من نوعه نتمنى أن لو يعود إلينا في كل مرّة ليذكّرنا أنّنا نستطيع أن نصنع الأرقى، فسلام لكلّ رقيّة تفاعلت مع الحياة بهذا العمق وسلام لكل رجل فريد أقنعنا بأنّ دنيا الرّجال لا تزال مليئة بالخير.
دة. ليلى لعوير