هذه آية من الذكر الحكيم عظيمة القدر بعظمة الآمر وعظمة مضمونها، ويكاد أن يكون عليها مدار الدين كله، إذ مدار الدين على تعظيم الله جل وعلا، وتعظيم حرماته، ذلك التعظيم الذي به لا بغيره يحصل للإنسان الخير الذي ينتفع به بين العباد وعند رب العباد.
فتعالوا بنا نقف على حرمات الله التي أمرت الأمة بتعظيمها! ومن ذلك:
تعظيم حرمة الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله وتعظيمه بما يستحقه من التعظيم والتكبير والإجلال، وتعظيم كل ما أمر بتعظيمه من أوامر ونواه.
تعظيم كل ما حرمه الله تعالى وجعله حراما: سواء أكان فعلا (كالكبائر) أم ظرفا لفعل (مكانا كالبلد الحرام، وزمانا كالشهر الحرام،) فهذا يأتي في المرتبة الأولى فلا ينتهك؛ حيث قال تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها(البقرة: 187)، ولا ينبغي تعديها قال تعالى أيضا: تلك حدود الله فلا تعتدوها(البقرة: 229) وجعل الاعتداء عليها ظلما حيث قال جل شأنه: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه(الطلاق: 1). ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون(البقرة: 229).
وإن حرمات الله جل وعلا وإن تفرعت إلى حرمات خاصة بذاته جل وعلا وحرمات خاصة بالإنسان، فإنهما لا ينفصلان ولا يستقيم أمر الثانية إلا بمراعاة حرمات الله الخالصة، ولا يصح الإيمان إلا بالجمع بينهما ومراعاتهما معا لذلك شملت الكبائر كل ما ينتهك من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. وقد أكد النبي على هذا قائلا: «إن الله -تبارك وتعالى- قد حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (صحيح البخاري).
وتعالوا بنا نقف على حال أمتنا في مراعاة حرمات الله وتعظيمها؛ وهنا نلاحظ ما يلي:
- خروج صنف من أبناء الأمة مجاهرين بمحاربة دين الله تعالى والاعتداء على حرماته خروجا تعددت ألوانه وتكاثرت أنواعه، أعظمها معاداة الدين والجهر برفض شريعته والدخول تحت رحمته، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فانتشر بسبب هذه الفئة انتهاك حرمة الدين من أصله وظهور كل ما يناقضه من الإلحاد والطعن في ثوابته ومحكماته.
- وخروج صنف آخر من أبنائها عن نهج الدين القويم وانحرف بالغلو فيه عن حكمته في العدل والرحمة والدعوة بالحكمة، فنهج نهج الغلو وتسويغ الإجرام بكل أنواعه بتأويلات باطلة وفهوم فاسدة. وترتب عن هذا الغلو فتن التكفير والتقتيل والتهجير، واستباحة الدماء والأعراض والأموال من غير نكير. فتشوهت صورة الأمة وانقض عليها كل من كان بتربص بها الدوائر.
- وصنف ثالث من أبناء أمتنا تضافر على قتل الإنسانية فيه الجهلُ بالدين والانغماسُ في الشهوات؛ فحُرِم من مكارم الحياة الطيبة، وكان ضحية التعاسة والجرائم والمخدرات ومساوئ الأخلاق وانتشر بسبب هذا ضعفُ التدين والقابليةُ للشهوات والمحرمات دون حصانة من العلم والإيمان قوية، فانتهكت حرمات الدين من هذا الجانب.
وتعالوا بنا ثالثا نشخص العلاج الذي بينه الخالق جل وعلا لعباده حتى ينعموا بالخير والرحمة في كنف دينه وطاعته:
وعلى رأس ذلك:
أولا: إشاعة العلم بدين الله وتعليمه لجميع أبناء الأمة في جميع مراحل التعليم وشعبه ومسالكه: فلا سبيل إلى تفادي معضلة الأصناف الثلاثة السالفة الذكر إلا بإقامة الأمة نظامها التعليمي على غرس الدين والتربية على قيم الإسلام البانية للشخصية المسلمة القوية الفاعلة في محيطها الإنساني لكل خير والمتفاعلة معه إيجابا لا سلبا، وتأثيرا لا تأثرا. ولذلك صح قول من قال من أهل العلم: ” إن تعظيم حرمات الله تعالى هي العلم بوجوبها والقيام بحقوقها”، ولا يصح قصر التعليم الديني على فئة دون أخرى ولا على مرحلة دون أخرى ولا على تخصص دون آخر.
ثانيا: وضع خطة تربوية شاملة لإنقاذ أبناء الأمة مما يهدد كل صنف: انطلاقا من الرؤية القرآنية والتجربة النبوية في بناء الإنسان الصالح النافع، إنها رسالة الأمة بكامل أفرادها ودعاتها وعلمائها ورجال الخير فيها وكل مؤسساتها وهيئاتها، فلا سبيل لجلب الخير من غير إنقاذ الثروة البشرة للأمة من الضياع. وإن عودة الأمة إلى التربية القرآنية لمن شأنه أن يحقق لها أمرين كبيرين:
الأول: دفع فتن الإلحاد ومعاداة الدين، وفتن المغالاة فيه، وفتن الجهل واللامبالاة والقابلية للانجرار وراء الشهوات والشبهات؛ من أجل الاستفادة من كل أبنائها.
الثاني: تكوين أجيال من أهل العلم القوي والعمل السوي والقدوة الصالحة في المسارعة في الخيرات والتنافس في المكرمات، أجيال قوية العزائم منهضة للنفوس المريضة بالقابلية للهزائم.
ثالثا: بناء مؤسسات المجتمع كله على رعاية حرمات الله تعالى: مراعاة تقوم على العلم والحكمة، وجلب العدل والرحمة، والنهوض بمصالح الأمة في تعزيز دينها وتكريم بنيها وإشاعة الخير في الأمم من حولها.
فكفى الأمة تيها عما يصلحها، وكفاها جهلا بما يردها إلى رحمة الله تعالى ونعمته، وكفاها شرودا عن هدى الله جل وعلا؛ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(الأنعام: 71).