حضارة الأمم في بنائها وتفاعلها مثل بناء الجسم الحي أو تكاد، فكما تحتاج الأبدان إلى ما يحفظ وجودها من الفساد، ويمنحها قوة مقاومة الأمراض، فكذلك حضارة الأمة.
وإن أمتنا الإسلامية قد ابتليت في القرون الأخيرة بالتراجع الحضاري، ودبّ إلى أوصالها كثير من أعراض داء فقدان المناعة -فكريا ونفسيا واجتماعية وسياسيا- فتبددت لحمة الجماعة، وصارت أجهزتها إلى نقض عُراها نزاعة…
أولا: في أعراض داء فقدان المناعة الحضارية، وهي كثيرة منها:
- سياسيا: الانحراف عن العمل بالمرجعية القرآنية للأمة وعن الاهتداء في السياسة الشرعية بهدي تشريعاتها الربانية إلى العمل بكل ما ورد علينا من الأمم الغربية، ويكاد جهاز التدبير في الأمة ألا ينتج إلا ما يفضي إلى تدمير المقومات، وهدم الأعمدة والمكونات.
- فكريا: التنكر لما اختصت به الأمة من الثوابت والأصول، وقطع حبل الصلة بما أبدعته العقول، في جميع المجالات والحقول. فصارت وظيفة جهاز التفكير مسيئة لتأويل ما ورد في الوحي والتنزيل والتفنن في ابتكار كل ما يفضي إلى التشويه والتعطيل مع فتح الباب لكل دخيل، وتمجيد كل ما يُلْحِقُ الأمة بالأذناب والذيول. وهذا -لعمري- علامة من علامات فقدان المناعة الفكرية.
- واجتماعيا: اختفت تدريجيا أصول تدبير مشكلات المجتمعات المسلمة، والعيش وفق ما أنشأته من أنماط العيش المناسبة لخصوصياتها مما يوافق هدي تصوراتها، حيث رُمِيَت بتهمة “التقاليد البالية” وفُصِلت عن جذورها الإسلامية، وانتشرت في الأمة كل مظاهر الهجنة بدعوى التحرر والعصرنة، وهكذا تعطلت قُوَى الدفاع والمناعة الاجتماعة لجسمنا الحضاري.
- ونفسيا: انتُزعت الثقة في الذات وأُضعف الاعتزاز بالمقومات، والافتخار بما كان للأجداد من الأمجاد والمنجزات، وأميتت في الأبناء الطموحات في إحياء النموذج الإنساني في الأخلاق والمكرمات.
إنه فعلا داء فقدان المناعة المكتسبة حضاريا الذي استشرى في الأمة أفرادا وجماعات، وفي جميع القطاعات والمجالات والمستويات، في الأفكار والمعتقدات، وفي التشريعات والتصرفات.
ثانيا: في محصنات جهاز المناعة الحضاري:
وإن الوعي الحضاري للأمة لن يكون إلا يوم تعي ما يقوي جهازها المناعي ويعزز مكتسباتها الحضارية، ويدعم خصوصياتها بين الأمم، وإن ذلك لا يحصل يوم يحصل إلا بالعمل الدؤوب على تحقيق جملة أمور ضرورية أبرزها اثنان:
أولها: بناء مشروع علمي متكامل المكونات؛ يخدم الأصول والمقومات، ويستوعب الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ويجيب عن التساؤلات التي يفرضها ما يستجد من المشكلات والمعضلات، مشروع تكون الاختيارات الأولى فيه لما يلي:
1 – علوم الوحي تعليما وتربية، توجيها وتجويدا وتجديدا، استمداد وامتدادا، فهي وحدها القمينة بتجديد خلايا المناعة الحضارية، وهي وحدها الكفيلة بوصل ما انفصل، واسترجاع ما سُلب؛ فمن غير الوحي وعلومه ومن غير الاستمداد منهما في بناء الوعي الحضاري الراشد والـمُرَشِّد لن تقدر الأمة على إعادة ذاتها إلى الوجود بله الحضور والشهود..
2 – العلوم الإنسانية: بتأسيسها على ميزان الرؤية الإسلامية للإنسان والحياة والكون، وفق حاجات الأمة داخليا وخارجيا، تأسيس من شأنه أن يقود إلى صياغة نموذج تجد فيه الأمة عزتها ومناعتها من كل الأمراض الحضارية التي أصابتها في مقتلها سياسيا واقتصاديا وفكريا ونفسيا واجتماعيا..
3 – العلوم المادية: بإقامتها على هدي الوحي وفي مختلف تخصصاتها الحيوية الدقيقة من العلوم الطبية والبيولوجية إلى العلوم المادية والرياضية والتقنية لسد الخصاص وتحقيق الاستقلال الحضاري المشروط بقوة الإبداع العلمي والتفوق المادي والتميز الفكري.
ثانيها: مشروع بناء وحدة الأمة العضوية بين أفرادها ومؤسساتها وجماعاتها وشعوبها ودولها؛ وحدةٌ تنفي الفرقة، وائتلافٌ ينفي الاختلاف، واختلافُ تنوع يجُبُّ اختلاف الفرقة والتقطع.
وحدة تتكامل فيها البلدان الإسلامية ولا تتآكل، ووحدة تستثمر فيها كل الإمكانات التاريخية الإيجابية، والموارد الطبيعية الذاتية، والطاقات البشرية الهائلة للارتقاء بالأمة من السقوط إلى النهوض، ومن البكاء على الواقع المريض إلى أداء ما يلزمها في الوقت من واجبات وفروض، وإقامة تكاليفها الحضارية بوعي واسع الأفق عريض…
وأخيرا نختم بقول الله تعالى الذي يرشد إلى مفاتيح هذا الوعي: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(آل عمران: 138- 140).