إن لكل شيء قلبا وقلب رمضان ليلة القدر؛ إذ تجليات الرحمة في هذه الليلة عظيمة الشأن وجليلة القدر. فليلة القدر أعجوبة من عجائب الرحمان وأيقونة من أيقونات رمضان؛ فالتحفيز فيها بلغ أقصى ما يمكن أن يتصوره إنس أو جان، والثواب فيها لا يقدر على وصفه إنس بقلم أو لسان. فليلة القدر ميّزها الله تعالى عن بقية أيام السنة؛ حيث فيها نزل القرآن، وفيها يكتب كل شيء من السنة إلى السنة القابلة بتفصيل وبيان، وفيها تنزّل ملائكة الرحمان، ويضيق الكون بما رحب على الشيطان، فطوبى لك أيها الإنسان المسلم بما خصّك به رب العزة المنّان.
• تجليات الرحمة الربانية في هذه الليلة العظيمة:
يمكن للمسلم أن يتلمس النفحات الإلهية والرحمات الربانية تنزل على الخلق في هذه الليلة المباركة من خلال العنصرين التاليين:
• وزنها وقدرها في الأجر والثواب مظهر من مظاهر الرحمة:
في مكانتها وسمو منزلتها في الشرع الإسلامي وردت نصوص شرعية كثيرة تحفز الناس على الاجتهاد في تحصيلها في رمضان. وهذا الترغيب في حد ذاته يدعو المسلم الحق إلى التأمل بعمق ليدرك مدى محبة الله تعالى له؛ وذلك أنه ينبهه إلى ما يخلصه من براثن الغفلة والإعراض عنه الذي هو رأس الخطايا. ولبيان مكانة هذه الليلة، خصها الله تعالى بسورة في القرآن الكريم لبين منزلتها وما تختص به عن بقية ليالي السنة. فهذه السورة تبين قدرها عند الله تعالى؛ حيث وضّحت بلغة واضحة جدا أن وزنها في الأجر والثواب يعادل أو يفوق ثواب ألف شهر من التعبد والقنوت إيمانا واحتسابا لله تعالى، فهذا مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى بالعبد الذي كتب له تحصيلها.
وفي هذا السياق ذاته حثّ الرسول –من جهته- على قيام ليلة القدر بصيغتي العموم والخصوص. فحينما ذكر الرسول قيام شهر رمضان “أو ما يعرف بصلاة التراويح”(1) فإن ذلك يشمل ليلة القدر، ثم لأهمية هذه الليلة، خصها بالذكر في أحادث أخرى. وهو ذكر ثان دال على الأهمية ومشير إلى مزيد من التأكيد من أجل تحفيز المسلمين وترغيبهم في قيام ليالي رمضان كاملة للحصول على جائزة العمر التي هي “ليلة بثواب ألف شهر من القيام والتهجد والتعبد والتقرب إلى الله تعالى.”
• قيام ليلة القدر من موجبات المغفرة وتنزل النفحات الربانية على العبد:
ومما يبيّن رحمة الله تعالى بالعبد وتعرضه لنفحاته في هذه الليلة أنه جعلها سببا وموجبا لمغفرة الذنوب. ومن الأحاديث المشيرة إلى هذا الأمر ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(2). وفي رواية للإمام النسائي: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.» فهذا الحديث بألفاظه المختلفة ينص صراحة على أن قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا من موجبات وأسباب محو ما تقدم وتأخر من الذنوب والآثام. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: «الصَّلاةُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ»(3). وأخرج الإمام النسائي من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: «إن الله فرض صيام رمضان وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»(4). غير أن الإشارة واجبة في هذا المقام إلى أن المقصود في هذه الحديث هو تكفير الذنوب الصغائر لا الكبائر، لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بشروطها وضوابطها المعروفة والمحددة عند علماء الشريعة.
• الخصائص التعبدية لهذه الليلة:
تتجلى هذه الخصائص التعبدية في العناصر الآتية:
أ – شرف نزول القرآن في هذه الليلة:
معلوم أن شهر رمضان له خصوصية بالقرآن الكريم؛ وذلك أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ(5) وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(6). قال ابْنُ عَبَّاس(7): أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ جُعِلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ نُجُومًا ثَلاثَ آيَاتٍ، وَأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَخَمْسَ آيَاتٍ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم(8). ولذلك كان جبريل يدارس النبي القرآن في كل ليلة في رمضان. فنزول القرآن العظيم في ليلة القدر يشير إلى خصوصية العبادة والتعبد في هذه الليلة، وهذا أمر لا ينبغي أن نغفل عنه لأن ذلك خسارة ما بعدها خسارة. فمصادفة المسلم بمدارسته للقرآن العظيم ليلة القدر الذي أنزل فيها شيء عظيم يدفعه للمزيد من الاجتهاد في العبادة.
ب – موقعها في العشر الأواخر من رمضان:
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر شد المئزر وأحيا ليله، وأيقظ أهله. فالإخبار من الصادق الأمين بوجودها في العشر الأواخر-التي خصت بكونها زمن عتق الصائمين من النار كما ورد في الحديث- يعطي للتعبد فيها معنى خاصا لشرف الزمان التي وجدت فيه، وهو زمن الخلاص من الجحيم. و لشرفها وشرف زمانها، كان النبي يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر. فمنها الاعتكاف، فإنه كان يداوم عليه في العشر الأواخر حتى توفّاه الله تعالى يطلب ليلة القدر(9). ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر شد المئزر وأحيا ليله، وأيقظ أهله”(10). وتنبيها للأمة على هذه الخصوصية التعبديّة، كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان أكثر من غيرها من ليالي رمضان، موقظا أهله للمشاركة في هذا الخير العظيم. فقد أخرج الإمام الطبري من حديث علي أن النبي كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق.
ج – سر إخفائها على الخلق:
أخرج البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال: “خرج النبي ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»(11). وفي بعض روايات الحديث «فالتمسوها في العشر الأواخر». فانطلاقا من هذا الحديث الشريف يظهر أن ليلة القدر ليست محددة الوقت، وأنها من العبادات التي أخفيت على المسلمين لخصوصيتها وقيمتها في المنظومة التعبدية دفعا لهم للاجتهاد في طلبها وتحصيلها. إذن تتمثل هذه الخصوصية في كون هذه الليلة العظيمة أخفيت على الناس تشجيعا لهم على الاجتهاد في طلبها في جميع ليالي رمضان، والطلب في التحصيل دافع قوي للعبادة فيزداد قرب المسلم من الله.ولذلكفإن الأجر المخصص لها قد يفوت على العبد بسهولة؛ لأنها ليست محددة الزمن والوقت، وذلك لشرفها وشرف ما خصت به من عظيم الأجر و جزيل الثواب.وعليه، فمن أطاع الله تعالى في ليلة القدر اكتسب ثواب ألف شهر، ومن عصى فيها اكتسب عقاب ألف شهر، ودفعا لعقاب أولى من جلب الثواب.
وخلاصة القول أن الثواب الجزيل الذي خصه الله تعالى بمن أدرك ليلة القدر لا نظير له في الدين؛ لذلك ينبغي الحر ص الشديد والاجتهاد المتواصل طيلة ليالي رمضان من المسلمين لإدراكها والفوز بهذه الجائزة العظيمة. فهي جائزة تعبر عن الكرم الإلهي والعطاء الرباني المباين تماما لمقاييس العطاء عند البشر الذي يقوم على نظرية الربح المادي أو اللامادي في الغالب الأعم، فالأجر بهذا الحجم يعتبر مظهرا من مظاهر الرحمة التي تنزل على العباد في هذه الليلة العظيمية. وهذا ينبغي على المسلم أن يقرأه قراءة إيجابية بحيث يفهم أن ذلك حافز له على الاجتهاد في القيام لعظمة الله تعالى في محراب الصلاة الوسيلة الفعالة للتواصل والتناجي مع الله تعالى المتعالي.
ذ. بدرالدين الحميدي
————————–
1 – سميت بذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يجلسون بعد أربع ركعات يستريحون. انظر: إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن.عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان، شركة الرياض للنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة، 1420-1999، ص: 44
2 – متفق عليه
3 – الطهارة، رقم الحديث: 342 . قال الترميذي: حديث حسن صحيح
4 – سنن الإمام النسائي، رقم الحديث: 2210، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
5 – البقرة، الآية: 185
6 – سورة القدر، الآية: 1
7 – تفسير ابن كثير، دار طيبة، 1400هجرية 2000 ميلادية
8 – الواقعة، الآية: 75
9 – إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن. عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان، شركة الرياض للنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة، 1420-1999، ص: 175.
10 – صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، رقم الحديث: 1920
11 – صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، رقم: 1919.