من القصائد التي قالها أبو طالب، يمدح رسول الله ، قصيدة لامية مشهورة. وهي قصيدة شهد بصحتها علماء الشعر، ومن بينهم الأصمعي وابن سلام، وهما من العلماء المتشددين في قبول الشعر، والناخلين صحيحه من زائفه. إلا أن ابن سلام في طبقاته أورد رأي بعض علماء الشعر الذين أقروا بصحة القصيدة، إلا أنه أردف ذلك بقوله: (زيد فيها، فلا يعرف منتهاها).
ومناسبة القصيدة أن أبا طالب خشي، كما يقول ابن هشام، “دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، فقال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكّة وبمكانه منها، وتودّد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنّه غير مسْلمٍ رسول الله ، ولا تاركه لشيء أبدا، حتى يهلك دونه”.
ومما قاله أبو طالب في هذه القصيدة:
ولـمّــا رأيت القـــــــوم لا ودّ فيهـــمُ
وقد قطعوا كل العرى والوسائــــــــلِ
وقد صـــارحونا بالعـــــــداوة والأذى
وقد طـــاوعوا أمر العــــدوّ المزايــــــلِ
وقد حالفوا قـــوماً عـلينـــا أظنّـــــــةً
يعضّون غيظـــاً خلفــــنـــا بالأنــــاملِ
صبرتُ لهم نفســي بسمــــراء سمْحةٍ
وأبيض عضبٍ من تراث المـــُــــــــقاولِ
وأحضرتُ عند البيت أهلي وإخوتـــــي
وأمسكتُ من أثـوابه بالوصـــــــــــائلِ
يشير إلى أنه سعى إلى مدّ حبل المودة مع قومه القرشيين، ولكنه اكتشف أنه لا ودّ فيهم، وأنهم قطعوا كل طريق وكل وسيلة من شأنها بسط حبل الود، بل وأظهروا العداوة، وبادروا إلى الأذى، وطاوعوا العدوّ فيما يريد من صرم المودة وقطع الرحم، وحالفوا الأباعد ضد الأقربين، واختاروا أن يحالفوا قوما أظنة، غير صريحي النسب، يحملون لآل طالب من العداوة ما يجعلهم يعضون أناملهم من الغيظ، آنذاك لم يجد الشاعر بدا من تجريد السلاح، مشيرا إلى الرماح السمر، والسيوف البيض التي أورثهم إياها أسلافهم الــمُــقاول، أي الملوك. مفردها قَيْلٌ، والجمع أقيال ومقاول، وكثيرا ما تطلق على ملوك اليمن بخاصة. وبنو قيلة، هم الأوس والخزرج، وأصلهم من اليمن، نزحوا إلى المدينة بعد انهيار سد مارب المذكور في القرآن العظيم. ولم يكن في سلفهم ملوك على الحقيقة، ولكن يريد أن لهم أنفة الملوك، وحميتهم، وسجاياهم. آنذاك استعان الشاعر بإخوته وأهله عند البيت الحرام، ممسكين بثوب الكعبة، كناية عن أنهم تواثقوا وتعاهدوا عند البيت الحرام، على ألا يسلموا محمدا ، ولا يقبلوا ظلما ولا هضما.
ثم إنه يذكر كيف أنه يلجأ إلى رب الناس، ويعوذ به وبكل ما هو مقدس، فيقول:
أعوذ بربّ النّــــاسِ من كـــــلّ طــــاعنٍ
علينا بســـــوءٍ أو مُـــــــلــحٍّ ببــــاطلِ
ومن كاشح يَـسْــــــعى لنــــا بمعيبــــةٍ
ومِنْ مُـــلْــحـــقٍ في الدّيـــن ما لم نحاولِ
وثورٍ ومن أرسى ثبيـــــراً مكــــانَــــــهُ
وراقٍ ليرقــــى في حـــراءٍ ونـــــــازلِ
وبالبيت حقّ البيْـــتِ مـــن بطْــن مكّــةٍ
وبالله إنّ الله ليْـــس بغــــــــــــــافلِ
وبالحجـــر الـــمُــــسْــــودّ إذ يمسحـونه
إذا اكتنفــــوه بالضّحــــى والأصــائلِ
وموطـــئ إبراهيـــمَ في الصخْـر رطبـــةً
على قدميْــه حافيــــا غير نـــــــاعلِ
وتزعم قريش أن الحجارة كانت رطبة، فلذلك رُسمت قدما إبراهيم لما وطئها، فهي باقية إلى اليوم.
ويتابع ذكر المشاعر، من المروتين إلى الصفا إلى منى إلى الجمرات، لكي يصل بعد ذلك إلى ذكر رسول الله ومدحه، فيقول:
كذبتم ْ، وبيت الله، نتْــرك مكّــــــــــــــــةً
ونظْعَـــــنُ إلا أمركمْ في بـــــــلابلِ
كذبتمْ، وبيت الله، نُــبْـــزى محمّــــــــــــــداً
ولـــمّـــا نُـــطاعـِــنْ دونه ونُنــازلِ
ونُــــسْــــلــمُــه حتّى نُــــصّـــرّعَ حوْلـــهُ
ونذهــلَ عنْ أبنـــــائنـا والحــــلائلِ
وينهض قــــــــومٌ في الحـــــــديد إليــــــكمُ
نهوض الـرّوايا تحت ذات الصــلاصل
ومعنى: نبزى محمدا، أي نُغْلَب عليه, فهو هنا يهدد قريشا بأنهم لن يتركوا مكة أبدا، ولن يسلموا محمدا، إذ دون ذلك الطعان والنزال، ولن يخذلوه إلا أن يصرعوا حوله، فداء له، أو يصيبهم من البلاء ما يذهلون به عن أبنائهم وحلائلهم، أي أزواجهم. وأنه سينهض إليهم قوم مدجّجون بالسلاح كما تنهض الإبل الحاملة للأسقية في مزاداتها.
ثم يخلص إلى مدح رسول الله فيقول:
وما تَـــــرْكُ قومٍ لا أبَـــا لــــــكَ سيّـــداً
يحوطُ الذّمــــارَ غيْـــرَ ذَربٍ مُـــواكلِ
ليصل إلى بيت القصيد فيقول:
وأبيضَ يُسْتسْقـــى الغَمـــامُ بوجْــــهِــــهِ
ثِمــالُ اليتـــامى عِصْــمةٌ للأرامــــلِ
وفي القصيدة أبيات أخرى في مدح الرسول .
لقد أورد ابن هشام في السيرة نحو مائة بيت من هذه القصيدة، ثم قال: “هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها”. فهي بذلك العدد تعد من القصائد الطوال.
وقد وقف بعضهم عند استسقاء أبي طاب لقومه برسول الله ، متعجبا، متسائلا: هل كان العرب في جاهليتهم يفعلون ذلك؟
ومما يؤكد صحة البيت ما ذكره ابن هشام، وأجمع عليه علماء السيرة وبعض أهل الحديث. قال ابن هشام: (وحدثني من أثق به، قال: أقحط أهل المدينة، فأتوا رسول الله فشكوا ذلك إليه، فصعد رسول الله المنبر، فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق، فقال رسول الله : «اللهم حوالينا ولا علينا»، فانجاب السحابُ عن المدينة، فصار حولها كالإكليل، فقال رسول الله : «لو أدرك أبو طالب هذا اليومَ، لسرّه». فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله، أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال: أجل).
قال السهيلي: (فإن قيل: كيف قال أبو طالب: “وأبيض يستسقى الغمام بوجهه”، ولم يره قط استسقى، وإنما كانت استسقاءاته عليه الصلاة والسلام بالمدينة في سفر وحضر، وفيها شوهد من كان من سرعة إجابة الله له؟ فالجواب: أن أبا طالب قد شاهد من ذلك أيضا في حياة عبد المطلب ما دله على ما قال.) ثم أورد لجوء قريش إلى شيبة الحمد، وهو عبد المطلب، للاستسقاء، فقام عبد المطلب، فاعتضد ابن ابنه محمدا، فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام قد أيفع، ثم دعاـ فما راموا حتى انفرجت السماء بمائها. فبهذا يكون استشقاء عبد المطلب بمحمد .
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني