كان بيت بني هاشم حافلا بالشعراء. ومما يروى لعبد الله بن عبد المطلب، والد الرسول ، أنه لما انصرف عبد المطلب آخذا بيد ولده عبد الله، بعد حديث القداح المعروف، وفدية عبد الله بالإبل، فمر به على امرأة من بني أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب عبد الله؟ قال: مع أبي. فدعته إلى نفسها لما رأت في وجهه من نور النبوّة، طمعا في أن تحمل بالنبي، فقال عبد الله في ذلك رجزا، منه:
أما الحــرامُ فالحِمــــــــامُ دونــــــــــــهْ
والحلّ لا حلٌّ فأستبيـــــــــــــــــــــنهْ
فكيف بالأمــــــر الذي تبغيـــــــــــنهْ؟
يحمي الكــــريم عِـــرضَهُ ودينـــــــهْ
فكان ذلك بيانا لتعفف عبد الله، وشرحا لقول رسول الله: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء». (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وورد في سيرة ابن هشام أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة، جمع بناته وندبهن لرثائه، فقالت كل واحدة منهن في ذلك شعرا. فكان مما قالت صفية بنت عبد المطلب في كلمتها:
أرقتُ لِصَوْتِ نائحـــــــةٍ بليْــــلٍ
على رجُلٍ بقــــــارعة الصعيدِ
ففاضت عند ذلكم دمــــــــــوعي
على خدّي كمنحدر الفـــريدِ
على رجل كريم غير وغْـــــــــــل
له الفضل المبين على العبيـــــدِ
على الفياض شيبة ذي المعالــــــي
أبيك الخيْــرِ وارث كل جـــــودِ
هذه الأبيات نموذج صالح للشعر الجاهلي. فليس صحيحا ما يرسخ في أذهان تلاميذنا من أن ذلك الشعر متسم بالحزونة والخشونة والتعقيد. فنحن أمام شعر هين لين قريب إلى المدارك والأفهام. فقد ارتفع صوت نائحة بالليل تندب عبد المطلب، فجعل ذلك صفية تسهر الليل، وتفيض دموعها، التي تشبهها بالدر الفريد. وهذا التشبيه البسيط يشي بأن العرب تجعل التشبيه والاستعارة من لوازم الشعر منذ ذلك الزمن البعيد. والوغل هو السيئ، والذي لا يصلح لشيء. وصفة “الفياض” التي عرف بها عبد المطلب دلالة على أن خيره يفيض على الناس. ولذلك قالت: “أبيك الخيْر”. فكأنها جمعت له الخير، أو جعلته عين الخير. قال السهيلي: أرادت: الخيِّـــــــــــر، فخفّفتْ، كما يقال: هيْنٌ وهيّنٌ، وفي التنزيل: “خيراتٌ حسانٌ”.
ومما قالته أروى بنت عبد المطلب:
بكتْ عيني وحقّ لها البكـــــــــاءُ
على سمْحٍ سجيّته الوفــــــــــــــاءُ
على سهْـــل الخليقــةِ أبطـــــــحيٍّ
كريمِ الخِـــيمِ نيّته العَــــــــــــــلاءُ
على الفياض شيبة ذي المعــــــــالي
أبيك الخير ليــــــــس له كفـــــــاءُ
وكان هو الفتى كرما وجـــــــودا
وبأسا حين تنسكب الدمـــــــــــــاءُ
والخِــــــيمُ: السجية والطبيعة. والأبطحيّ: نسبه إلى الأبطح، وهو مسيل الوادي المتسع، كناية عن سعة الحلم. وقوله: “ليس له كفاء”، أي ليس له نظير. وهو مثل قول حسان في مدح الرسول يوم فتح مكة: “وروح الله ليس له كفاء”. وقد جمعت له في البيت الرابع خصال الفتوّة، وهي الكرم والجود والبأس.
ذكرنا أن أبا طالب، عم رسول الله ، كان شاعرا، وشعره مرجع من مراجع سيرة المصطفى . ومعلوم أن قريشا -عندما شاع أمْــرُ النبي – سعت عند أبي طالب ليكف ابن أخيه عن تسفيه آلهتم والتعرض لهم، وعرضوا عليه ما عرضوا، فأبى أن يسلمه، بعدما رأى ثبات الرسول على أمر الدعوة. ولما سعى بعض أحياء قريش إلى خذلانه، ثبت هو وبنو هاشم ومن إليهم، على نصرة النبي . ومما قاله أبو طالب في ذلك من شعر، يعرض فيه بمن خذله، ويمدح الرسول :
ألا قل لعمرو والوليدِ ومطعـــــــــــمٍ
ألا ليت حظي من حياطتكم بكْــــــــرُ
من الخور حَبْحـــابٌ كثيرٌ رغـــــــاؤهُ
يرشّ على السّاقين من بَـــوْلِهِ قَطْــــــر
إلى أن يقول:
فوالله لا تَــــــنفـــكّ منّــــا عـــداوةٌ
ولا منهمُ ما كان من نسلنـــــا شفْـــــرُ
فقد سفهَـتْ أحـــلامهمْ وعقــــــولهمْ
وكانوا كجفر، بئس ما صنعتْ جفْــرُ
وقد بدأ أبو طالب بالتعريض بكبار القوم من قريش، ممن أرادوا منه أن يسلمهم ابن أخيه، فتمنى لو كان له مكانهم بكرٌ، أي جملٌ، من صفاته أنه ضعيف قصير، وإن كان كثير الرغاء، يبول على عقبيه، وكل ذلك احتقار لهم وتنقيص من شأنهم. كما أنه يجاهرهم بالعداوة، وأنها عداوة مستحكمة باقية ما بقي من قومه فرد واحد، ما لم يتوبوا عن خذلانهم.
وقد أورد ابن هشام من هذه القصيدة أحد عشر بيتا، ثم قال: (تركنا منها بيتين أقذع فيهما). والإقذاع أخبث الهجاء.
ولأبي طالب قصيدة أخرى يبدي فيها سروره بموقف قومه المقربين، من بني هاشم، وجهدهم معه وحدبهم عليه، ويمدحهم، ويذكر فضل رسول الله ، ومكانه منهم. ومنها:
إذا اجتمعتْ يومــــا قريشٌ لمفـــــخرٍ
فعبْــــد منافٍ سرّها وصميمهـــــــا
فإن حُـــصِّــلتْ أشراف عبدِ منــافهـا
ففي هاشــمٍ أشرافهـــا وقديمــــــها
وإن فخرتْ يوما فإنّ محمّـــــــــــــدا
هو المصطفى من ســرّها وكريـــمُها
تـاعتْ قريشٌ غـــثُّـهــا وسمينُــهــا
علينا فلم تظفــرْ وطــاشت حلـومُهـا
وكُـــنّا قديمـــــا لا نُقـرّ ظُــلامـــةً
إذا ما ثنـوا صُعْــر الخــدود نُقيمهــــا
وهي أبيات يتجلى فيها الفخْــــــر ببني عبد مناف، وأشرفُ بني عبد مناف بنو هاشمٍ، ولكن محمدا، ، هو منهم جميعا الذؤابة دون غيره. وقد جمعت قريش لبني هاشم ما جمعت من الغث والسمين، ولكن دأب بني هاشم رفض الضيم، ومن صعّر خده لهم أقاموه وردوه إلى طبيعته. كناية عن عدم قبول قلامة من الظلم.
وللحديث صلة.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني