تقدم الحديث في العدد السابق عن ظروف نشأة سلمان بصورة عامة، وتبين من خلال الأسلوب التربوي الذي تلقاه سلمان ما يجعله لقمة سائغة سهلة في وجه كل تيار يريد أن يجرفه حيث يريد، وهذا ما سيتضح من خلال هذه السطور:
نقطة التحول في حياة سلمان:
كان سلمان ه يعيش حياة عادية، بعيدا عن كل الأسئلة -الميتافيزيقية- التي تقض مضجعه، أو تدخله في صراعات فكرية مع نفسه، أو مع غيره، ذلك أنه كان فردا متعبدا بلغ المرتبة العليا في التدين، يبين ذلك قوله في قصته التي رواها ابن عباس رضي الله عنهما: “واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة”.
فهذا يبين تشبثه بالمجوسية واجتهاده فيها، وانقطاعه التام عنها بالإضافة لما تقدم من حبس أبيه له الذي جعله بعيدا عما يجري في الواقع، جاهلا لما يسود العالم من أفكار ومذاهب وأديان، لا يعرف شيئا عن ذلك، كما أن ذلك جعل تدينه تدينا تقليديا محضا؛ لا يستند إلى أسس قوية، ولا يقوم على دعائم متينة، ومن ثم يسهل نسفه ونقضه والتأثير عليه، وهذا ما حصل بالتمام والكمال، إذ كانت خرجة واحدة من بيت أسرته كافية بنبذه لدينه، -وارتداده عن دين الأجداد والآباء-، يقول : “فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ، لِحَبْسِ أَبِي إيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْتُ: هَذَا وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحن عَلَيْهِ، فو الله مَا بَرِحْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَت الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا”.
فهذا النص حافل بالدروس والعبر، ويمكن الاكتفاء هنا بالوقوف عند النقطتين الآتيتين:
أولا: أن التدين القائم على التقليد والمحاكاة لا يصمد صاحبه عندما تلوح له الدلائل، وتسطع في وجهه البراهين، فالدين الموروث عن الآباء بناء أوهن من بيت العنكبوت، تجرفه سيول الشكوك بسهولة، وتحطمه رياحها بسرعة.
ثانيا: أن الفطرة عندما تحركها بواعث الحق، وتدعوها دواعي اليقين لا تتردد في الاستجابة، ولا يسعها إلا التسليم التام، والانقياد المطلق، وها نحن نرى كيف أن سلمان يقسم بقوله: “هذا والله خير من الذي نحن عليه”. فما الذي دفعه لهذا القسم؟ وما الذي جعله يطمئن كل هذا الاطمئنان؟ إنها الفطرة التي تقود صاحبها دون أن يشعر، ففطرته دفعته أولا ليدخل إلى الكنيسة، وذلك فيما يبدو بدافع حب الاستطلاع والاكتشاف فقط، لكن الله قدر أمرا آخر، وقادته تلك الفطرة ليلزمهم طوال اليوم، ويقارن بين ما هم عليه وما هو عليه وأهل ديانته، ثم يجزم بذلك الجزم اليقيني، وذلك إلهام من الله تعالى، فالله إذا أراد لعبد خيرا قدر أسبابه، وأزال موانعه، ويسر الأسباب الموصلة إليه.
هذا ما يمكن الوقوف معه باختصار في هذا المقطع، وبما أن هذا الاكتشاف الجديد سيكون له تحول كبير في حياة سلمان ، فإنه لابد أن يكون له ما بعده، وأن يوقعه ذلك في مآزق ومشاكل؛ لأن سنة الله هكذا تسير، وهي لا تحابي أحدا في هذا الشأن، ومن هنا يأتي الحديث عن النقطة الآتية:
أول امتحان؛ في رحلة سلمان:
ما فعله سلمان من مكثه مع النصارى طوال يومه، ورغبته في أمرهم، والتعبير عن إعجابه بهم، يعد في نظر أهل ديانته انسلاخا من الدين، وردة عن الصراط المستقيم، وانحرافا عن جادة الصواب، ومن ثم يجب على أهل الحل والعقد تأديبه والضرب على يديه، حتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه أن يفعل مثل فعله، أو يسلك مسلكه، وهذا ما قام به أبوه كما يقول : “فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ من دينهم، فو الله مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَلَّا وَاَللَّهِ، إنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ”.
فهذا النص يكشف عن بداية المحن التي سيلاقيها سلمان في رحلته الطويلة بحثا عن الحقيقة، وها هو في رمشة عين تحول -في نظر أبيه- من ذلك الطفل الوديع المحبوب الذي لا يكاد يفارقه، ولا يحبه أن يُمس بسوء، ومن شخص مخوف عليه، إلى شخص -مجرم- مخوف منه كما يؤخذ من قوله: “فخافني”، ولكن الذي ينبغي لفت الأنظار إليه هنا ما يلي:
أولا: التشابه الكبير والتطابق التام، بين ما فعله أبو سلمان مع ابنه، وما كان يفعله أولياء مسلمي مكة المستضعفين الذين كانوا يؤمنون بدعوة محمد ويتبعونه، حيث كانوا يحبسونهم ويفتنونهم من أجل أن يرجعوا إلى دين آبائهم وأجدادهم.
ثانيا: مدح دين الآباء والأجداد، وتفضيله على كل دين جديد، وهذا واضح من قول أبيه له: “دينك ودين آبائك خير منه”، وهذا يشبه أيضا صنيع كفار مكة حيث قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه.
والخلاصة المستفادة من هنا أن الكفر ملة واحدة، في القديم والحديث، وأن شريعة أهل الباطل واحدة، أصلها الدفاع عن الباطل، وفرعها رمي الحق وأهله بكل نقيصة، ومن أهم مقتضياتها التنكيل بكل من يرفضها ويطلب غيرها، كما قال أسلافهم في ذلك لنبي الله شعيب : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا (الأعراف: ).
ذ. عبد الصمد احسيسن