فرض الله تعالى علينا صيام هذا الشهر، وشرع لنا قيامه احتفاء وتخليدا لذكرى غيرت مجرى التاريخ، هي ذكرى نزول الوحي؛ الهدى والرحمة من الله الرحمن الرحيم، رحمة القرآن، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمومنين(يونس: 57). فكل ظرف إنما يشرف بمظروفه، وأي اسم إنما يشرف بمسماه، أي بمحتواه.
فمقام رمضان مرتبط بنزول القرآن، وقد شرع الله لنا شكر نعمة تنزل القرآن بفرض صيام هذا الشهر الذي اصطفاه الله ليكون حاضنا لآخر الكتب السماوية والمهيمن عليها، المنهاج الكامل الشامل والدليل العملي للبشرية إلى قيام الساعة.
فهذا الشهر قد خُصَّ بعبادة جامعة لا عدل لها في مقامها؛ الصيام مقرونا بالقيام وتلاوة للقرآن، كلها تختزل المنهج الرباني في البناء والنماء والفداء: تخلية وتزكية ودعوة: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم(البقرة: 29).
تلاوة + تعليم + تزكية + ترقية + دعوة
رمضان شهر تدارس القرآن:
كان جبريل يدارس رسول الله القرآن ويعارضه القرآن مرة في السنة في رمضان، حتى إذا كان العام الأخير عارضه مرتين؛ عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ”.(1)
هذه المعارضة وهذه المدارسة كأنها مراجعة جديدة للقرآن تلقيا وتفهيما وتوجيها للعمل بهذا الكتاب في شهر هو الإطار لمثل هذا، استمدادا وإمدادا وامتدادا… إنها إعادة الوصال مع اللحظات الأولى لتنزل الوحي… إشراقات البدايات ومتعة اللقاء بحامل الوحي والانغماس في بحار التنزيل… وإنها من لحظات صفاء الوجدان والعرفان… مواقيت تنمحي معها أزمنة الطين ليرقى فيها العبد إلى حلاوة الإيمان… فرمضان تجديد العهد مع الله تعالى..
الصيام تهيئة وإعداد للروح لتلقي القرآن أحسن ما يكون التلقي، فحين يصوم العبد يعرج إلى مقام أسمى تصفو فيه روحه، ويتقذ إدراكه، وتتفتح بصيرته لتلقي معاني كلمات الله، ويتأهل لتذوق جمالية الكتاب بوجدان فطري؛ لأنه يصوم عن الشهوات التي تشده إلى الأرض، فتحلق روحه لتلقي الوحي وتلقي الهدى الرباني ليتسنى له اكتساب سلامة الرؤية وسلامة المنهاج وسلامة المسير.. فيصير عبدا ربانيا حكيما.
إحياء سنة تدارس القرآن:
فعلى القابضين على الجمر في زمن القصعة والغثائية إحياء سنة النبي بتدارس القرآن في رمضان… وغرس هذه الفسائل النورانية في القلوب العطشى لغيث القرآن، وسقي تلكم التي طال عليها الأمد بشلالات من فيوضات الرحمان.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»(2).
“فعندما يجتمع الجلساء متحلقين بمجالس القرآن، ويشرعون في الاشتغال بكتاب الله ؛ فإنما هم في الحقيقة يصلون أرواحهم بحبل الله النوراني مباشرة، ويربطون مصابيح قلوبهم بمصدر النور الأكبر، فإذا بهم يستنيرون بصورة تلقائية، وبقوة لا نظير لها؛ وذلك بما اقتبسوا من نور الله العظيم! وإذا بهم يترقون بمعارج القرآن ومدارجه إلى مشاهدة حقائق الإيمان، مشاهدة لا يضامون فيها شيئا! وما كان للزجاج البلوري إذا أشرقت عليه أنوار الحقائق القرآنية إلا أن يكون مشعا، وذلك هو مثل أهل الخير المصلحين في الأرض، ورثة الأنبياء من الربانيين والصديقين..”(3)
ومنهج تدارس القرآن ثلاث خطوات:
1 - التلاوة بمنهج التلقي: واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك(الكهف: 27).
2 - التعلم والتعليم بمنهج التدارس: ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون(آل عمران: 79).
3 – التزكية بمنهج التدبر: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته(ص: 29).
فالمنطلق من هذه الخطوات فهي بداية السير الصحيح، ومفتاح جلب الخير ودفع الشر، والمنهاج الصحيح في بناء الإنسان العابد لله السائر بنور الله بين عباد الله.
وإن من شأن تلقي القرآن بمنهج التدارس تلاوة وتدبرا وتخلقا أن يكون له أثر خير في الإنسان والمجتمع؛ فقد ثبت أن رسول الله “كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ”؛ فعلى قدر الإشباع يأتي الإشعاع… إن ورود ماء القرآن يزود العبد بطاقة جديدة، ويفعل طاقاته الإيجابية لينساب بين العباد ناشرا الخير… فكلما اشتعل العبد بوارد القرآن توهج الإيمان بقلبه واشتعل؛ فتدفق منه النور، فهو لذلك كالكوكب الدري يضيء الفضاءات ويهدي الحيارى.
التقاء مقاصد الصيام والقرآن وثماره:
إن الهدف الأسمى للصوم هو بلوغ مقام التقوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (البقرة: 183)، وهذا الهدف هو واحد من مقاصد تنزل القرآن الكريم وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(طه: 113).
ولذلك فإن التقاء مقاصد الصيام ومقاصد التخلق بالقرآن من شأنه أن يثمر ما ينفع الفرد والأمة، ومن أبرز ذلك:
أ - وضوح الرؤية واكتساب البصيرة:
وهذه التقوى، هذا النوع من أنواع التقوى يُثمِرُ للعبد ويُوجِد في نفسه فرقانا ونورا وبصيرة، قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الأنفال: 29)؛ أي يورثكم ذلك بصيرة تكشفون بها السَّير، وتخرجون بها في المُدْلَهِمَّات المُرتبكات، أي يجعل لكم نور هداية، وصفاء فكر، وجلاء بصيرة، وذلك عندما تنقشع وتزول سُحُب الشهوات عن سماء النفس، فتصبح ترى البينات بينات، وترى الحق حقا، ولا يخدعها الشيطان بتزييفه وتضليله. وبهذا يلتقي فُرقان الصدق في الصوم بفرقان الحق في القرآن قال تبارك وتعالى: وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يُحدثُ لهم ذكرى، فيتم اللقاح الُمفضي إلى قمة الفلاح والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون.(4)
ب - الصوم والقرآن يَشفَعان لصاحِبِهما يومَ القيامة:
رَوَى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر -رضِي الله عنْهما- أنَّ النبي قال: «الصِّيام والقرآن يَشفَعان للعبد يومَ القيامة؛ يقول الصِّيام: أي ربِّ؛ منَعتُه الطعامَ والشهوةَ فشَفِّعني فيه، ويَقول القرآن: منَعتُه النومَ بالليل فشَفِّعني فيه، قال: فيُشَفَّعانِ»(5).
ت - الوصول إلى مقام الإمامة:
واعتبارا أن هذا الشهر هو شهر الصبر، والصبر ضياء وثوابه الجنة، فإن العبد الذي يزكو في مدارج السالكين مجاهدا ذاته في ذات الله مقبلا عليه محتسبا كل ما يلاقيه في طريق ذات الشوكة لله…
“حيث يتزود الموفقون من عزمات صيامه، ومن نسمات قيامه، أرصدة من الصبر الجميل والذكر الجليل، الذي تزكو به نفس المنيب وتسمو إلى مستوى التقريب” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون(البقرة: 186). وبصبر التقوى تستقيم خطانا على سواء الطريق، وببصائر الذكر ويقينه يحيا الضمير ويستفيق، وبهذين الجوهرين صبرا ويقينا يتحقق المؤمن بكمال شخصيته ويتأهل لمقام إمامته المشار إليه بقول الباري جل وعلا: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون(6). وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. اصطفاء من الله وتزكية منه وجعل منه ل”امة” بما تحمله الكلمة من معنى السيادة والقيادة والإمامة التي تكون النموذج بما تمتلكه من القوة العلمية والإيمانية والخلقية وبما أوتيت من فقه الدين والواقع والتنزيل.
السلف الصالح مع القرآن الكريم:
كان لهم ورد يومي… ومعايشة خاصة مع القرآن في رمضان.
قال ابن رجب: “كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها”. وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة”(7)
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث”(8)
قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.
فصن الصيام والزم القيام واحفظ القرآن تلاوةً وتدبراً وتخلقاً وتعليما يصلح الله لك الظاهر والباطن، ويجعلك من عباد الرحمان الذين رضوا بالحياة في ظل القرآن وهدايته، ومشوا بنوره ينشرون رحمته بين العباد.
ذ. رشيد المير
——————-
1 - أخرجه البُخَارِي 1/4(6) و4/229(3554)، وأحمد 1/230(2042).
2 – رواه مسلم
3 - فريد الأنصاري. مجالس القرآن .ج 1 ص 56-57 .بتصرف
4 – من خطبة الجمعة للشيخ مصطفى البحياوي حفظه الله .بمسجد الشاطبي -طنجة
5 - أخرجه أحمد في “المسند” (2/174)، والحاكم في “المستدرك” (1/554)، والبيهقي في “مجمع الزوائد” (3/181)، قال أحمد شاكر في تحقيق “المسند” (6627): إسناده صحيح.
6 - من خطبة الجمعة للشيخ مصطفى البحياوي حفظه الله .بمسجد الشاطبي -طنجة
7 - الحلية 2/338 ولطائف المعارف ص: 191.
8 – لطائف المعارف ص 191.