يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ويقول سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يريد بكم العسر. شهر رمضان أذن الله تعالى فيه ليلتقي فيه نور كلامه بأهل الأرض، فيهدي به من يشاء من عباده إلى نور هدايته. شهر رمضان فرصة التصالح مع كتاب الله تعالى، ولتدبر كلامه ومدارسته، وفرصة للإكثار من تلاوته وتحصيل معارفه والنيل من كنوز آياته والارتواء بكلام العالمين، والتزين بأخلاقه وقيمه.
يعتبر القرآن الكريم البوصلة الحقيقية للاهتداء للتي هي أقوم في الدين والدنيا والسير على خطى الصراط المستقيم، يقول الله تعالى: إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. فرمضان فرصة التوبة والإنابة إلى الله تعالى، وفرصة الإقلاع عن مساوئ الأفعال والتخلق بمحاسن الأخلاق. رمضان فرصة العمر والفوز برضا الرحمان، وفرصة النجاة من النار ودخول الجنان.
شهر رمضان فرصة التغيير على المستوى الروحي والمادي، وشهر مراجعة ومحاسبة النفس على مستوى العبادات وعلى مستوى المعاملات وعلى مستوى أعمال البر كلها، كل ذلك من أجل أن نسمو بأنفسنا إلى الله ونزكيها حتى تصبح حياتنا كلها عبادة في رمضان وغير رمضان، وإلا ما فائدة الصيام وغيره من العبادات وجميع الطاعات إن لم نَرْقَ بأنفسنا إلى الله تعالى؟ فالصوم وغيره من العبادات مقصدها تحصيل التقوى وتزكية النفوس.
فالعاقل من يستغل شهر رمضان ليدرب نفسه على طاعة الله تعالى باتباع ما أمر واجتناب ما نهى. وتدريب النفس على العمل الصالح لشهر كامل تكفي ليغير الإنسان ما بنفسه، ويسجلها في قائمة المتقين، والعاجز من يدرك رمضان ويفوت على نفسه منازل المتقين الذين ينالون غرفا ترى ظهورها من بطونـها، وبطونـها من ظهورها.
يفوز الصائم الحق بمغفرة من ربه، لأنه قمع شهوات نفسه، وضيق مجاري الشيطان، فاتصل بربه طواعية، واستأنس بالقرب منه تعالى خوفا ورجاء ومحبة، وآثر شهوات الدنيا وملذاتها على ما عند الله من نعيم مقيم، يقول النبي : «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، فطهر لسانه من القيل والقال، وحفظ جوارحه وكفها عما حرم الله تعالى، وشغلها بأعمال البر كلها، ثم طهر قلبه وحفظه من الأمراض المعنوية، فسمت همته فأقبل على الله تعالى بقلبه وجوارحه، ذلك أنه عمل وعلم من حديث رسول الله أنه قال: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».
رمضان شهر لمراجعة الإنسان علاقته مع خالقه، ومراجعة علاقته مع ذاته ومراجعته مع من حوله من الناس والكون وكله. وإذا توطدت العلاقة بين الإنسان وخالقه وحسنت، حدث التغيير الإيجابي في العلاقتين الأخريين؛ لأن الصوم المطلوب يتجاوز شهوة الفرج والبطن فيشق الصائم طريقه إلى الله تعالى بتزكية نفسه ويسمو بها ممتعا لسانه وقلبه بتلاوة القرآن فتستقر أحكامه وأوامره في جوارحه، فتلتقي روحه بروح القرآن، فتسري فيها الحياة، وتمشي على هدى من الله تعالى وبينات منه، ويستقر في كيانها الخشية والخوف والرجاء، فتنطلق الجوارح مستجيبة راضية بقضاء الله وقدره.
تزكو النفوس في رمضان شهر بمكارم الأخلاق، يقول النبي : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، فترقى النفس بالصوم لتقمع شهواتها، ليتجاوز مجرد القول “إني صائم”، وإنما يذكر نفسه أنه في عبادة، ويدافع نزعات الهوى والشيطان ليحافظ على صومه، ويفرح به عند فطره، فهو يشعر بالقرب من خالقه، ويعلم أن الله تعالى مطلع على خفايا نفسه وما وسوست، فيحلق في الأفق ليطمئن لأمر ربه ويستسلم بقضائه وقدره، فتغدو النفس مسبحة في كل وقت وحين.
وحين تصل النفس إلى درجة الأنس بخالقها تَوَدُّ لو تبقى على هذا الحال حيث تنسجم فطرته بالتسبيح والاستغفار مع فطرة الكون كله، فتنتقل النفس من حال إلى حال ومن درجة إلى درجة في السمو، فتتقرب إلى ربها خطوة خطوة وتسعى إليه وجلة تستصغر ذلك كله في مقابل نِعَم الله عليها وآلائه. إنها والله الجنة العاجلة حيث تطمئن النفس ويرتاح الضمير وتنطلق الروح في ملكوت الله تعالى، فتَذْكُرُه في سكناتها وحركاتها، في خلواتها وانضمامها، في سرها وعلانيتها، تذكره في حال سراءها وفي ضراءها، فتنقطع إليه وترجو لقاءه، يقول النبي : «الإحسَانُ أَن تَعْبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تَرَاه فإِنْ لَمْ تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّه يَرَاكَ»، فتجد النفس حلاوة الطاعة وتتلذذ بالمناجاة وتتيقن بأن الله يذكرها في ملأ أفضل، يقول الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، فلا يتكلم العبد ولا يقول إلا ما يرضي الله تعالى، ولا يمشي إلا في رضا الله ودعوته، ولا يسمع إلا القول الحسن، ولا يجلس إلا في مواطن البر عبدا منيبا، يقول النبي : «ومَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».
إن رمضان فرصة يتدرب فيه الإنسان على جميع الطاعات فيفر إلى ربه، فتصفو روحه من كدرات الدنيا وشهواتها، ويجعل من يومه كله محرابا يتوجه فيه إلى الله تعالى، وطريقا يتوكل عليه، فالذكر لذة والشكر شعور وإقرار بالنعمة، يقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
رمضان فرصة لتقوية الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. والمؤمن يجعل من رمضان بوابة يدخل فيها على ربه تائبا من الذنوب صغيرها وكبيرها، فيتقلب من طاعة إلى أخرى، ليُنَمِّي رصيده من الإيمان ويقويه، ولا يجد العبد حلاوة الإيمان إلا في ثلاثة أمور، عن أنس عَنِ النَّبيُّ قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَن كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، ومَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّه إِلاَّ للهِ، ومنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُدَ فِي الكُفْرِ بعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ الْعَبْدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الإِسْلاَمِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “إنّ في الدينا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قالوا: وما هي؟ قال: إنها جنة الإيمان”، إنها الجنة حقيقة يتذوقها الذي تسمو نفسه، يجدها كما يجد حلاوة الطعام تسري في عروقه، هذه الحلاوة تجري في مشاعره وكيانه، يتلذذ بالطاعة ويبغض المعاصي ويكرهها. هذه الجنة التي ذاقها قبلُ أصحاب رسول الله فتحولوا من عبيد إلى سادة، ومن الذلة والصغار إلى العزة والرفعة، فملكوا الدنيا شرقا وغربا، وملكوها طولا وعرضا، وملكوا قلوب الناس وفتحوا الشعوب بأخلاقهم وإيمانهم. ولولا الإيمان ما كان لبلال الحبشي أن يُذاع اسمه وأن يُدويَّ في الآفاق، ومثله من العبيد والسادة، الذين كتب عنهم التاريخ لاعتناقهم الإيمان بالله ورسوله. بلال الحبشي يُعَذَّب في يوم شديد الحرارة، مقيد اليدين والرجلين، والصخرة على صدره تخنق أنفاسه، ويُضرَب بالسوط، ولم يفلح أبو جهل في التقاط كلمة من فم بلال يذكر فيها آلهتهم بخير، ويُلِحُّ عليه ليفك سراحه، فيرد بلال بن رباح في قوة تتصدع منها الجبال الرواسي، فينفجر صوته بالنشيد الخالد “أحد أحد”، إنها الحقيقة التي تهز الفؤاد يقينا، فينطق اللسان بأطيب كلمة في الوجود “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، إنه الإيمان الذي صنع بلالا وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
د. عبد الله البوعلاوي