قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(البقرة: 182)، إنه أمر الله تعالى لعباده المؤمنين بالصيام، الذي بين فيه سبحانه أن من أهدافه ملامسة التقوى للقلوب، تلك التقوى التي تكرس طبيعة الإيمان في النفوس التي تتحول معها إلى العمل بحقيقة الصيام من التزام أحكام الدين الحنيف عبر الامتناع عن المباحات، وبالأحرى عن المحرمات طيلة حياة المسلم، ولا ينبغي أن يبتعد المسلم عن المحرمات مع اقتراب شهر رمضان فقط، ثم العودة إلى اقترافها مع نهاية شهر رمضان بعد حلول عيد الفطر، إن الاحتفاء بالشهر الفضيل، يكون بشحذ الهمم على المثابرة على الطاعة وإحياء الليالي المباركة بالقيام والذكر وقراءة القرآن، وتمضية النهار بالعمل المفيد، وليس بقطع النهار في الغيبة والنميمة، وقول الزور وتمضيته كذلك في الأمور المحظورة المرئية والمقروءة والمسموعة. إن شهر رمضان يعلمنا تحبيب الخير للناس، ويحثنا على مساعدة الفقراء والمساكين والجائعين، ويرغبنا في إحياء لياليه في التجمعات الإيمانية حول موائد الخير، وملتقى الأسرة المؤمنة في طاعة الله وحب الخير للناس، ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى السلام والمحبة والعدالة والمساواة بين جميع البشر، لأنها دعوة القرآن: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(الحجرات: 13)، إن شهر رمضان من المحطات الإيمانية التي يرتاح فيها المسلم المؤمن من صخب الدنيا ليتقرب أكثر فأكثر من الله تعالى، إن الصائم الحق لا يشارك في حفلات الرقص والعربدة، ولا يشارك في السهرات الساقطة والهادرة للأخلاق الفاضلة والجارحة للحياء.
شهر رمضان مناسبة للتفكر في هذا الكون الفسيح وآيات الله تعالى في السماء، إنه امتناع وكف، إنه انضباط لا يمكن الاطلاع على خلوة الصائم، ولا يعرف الناس الصائم من غيره، ولا يعلم صدق عبادة الصائم إلا الله تعالى، قال رسول الله : «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» (البخاري).
إذا كان الصيام بهذه الأهمية، فيجب أن يكون حافزا لتدبر الشريعة وتطبيقها، والتزام منهج الله، فهو منطلق للتوبة النصوح، وتجديد صلة الصائم بربه وكتابه، وفرصة لهجر المعاصي والذنوب، فالصوم يورث الحكمة والمعرفة، فالمسلم الصائم يكون نموذجا للإنسان الكامل الذي يقترب من الله، ويسعد بهذا القرب، ويعطي الأحسن دائما، يحب ولا يكره، يصل ولا يقطع، يبر ولا يعق، يفرح ولا يحزن، يألف ويؤلف، يجود ولا يبخل، يعطي ولا يمنع، يتسامح ولا يحقد، يعلم ولا يجهل، يعمل ولا يتكاسل. فهل عقلنا نحن المسلمين ذلك؟
إن شهر رمضان دعوة للأخذ بتفاصيل مكارم الأخلاق التي بعث الرسول لإتمامها. إن عبادة الصوم يسترجع بها الصائم حيوية جسده ونشاطه المادي والمعنوي، مما يدفع المسلم الصائم للخلوة مع النفس بين يدي الله ، يستحضر مراقبة الله، فيقبل على عمله بإخلاص وصدق وإتقان. والصوم بما يغرسه في النفوس من قوة الإرادة وكبح الشهوة، وتعود الصبر، ومراقبة الله، كفيل بأن يرد العاصي إلى التوبة، والمسرف إلى الاعتدال، والكسلان إلى الجد والاجتهاد، ويصد المستغل الجشع عن جشعه، ويحيي في ضمير المسلم الصائم الإحسان في كل شيء، فإذا كان رمضان هو شهر الصوم والرحمة، والعطف والإحسان، وهو الشهر الذي يكون المسلم فيه أشبه بالملائكة، دائم الصلة بربه، ومن يمن هذا الشهر وبركته، ومن طهر الصائمين المخلصين، تمت أحداث كبرى، اكتسب فيها المسلمون النصر والظفر، ففيه انتصر المسلمون في غزوة بدر، وفيه فتحت مكة أبوابها للمسلمين الصائمين، قال تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (يونس: 58).
ذ. أحمد حسني