التربية الإسلامية: مجال نوعي يتكامل مع مجالات نوعية أخرى لتربية عامة تتسع باتساع الحياة في المجتمعات الإسلامية، وتنتظم في داخلها تربيات علمية وطبيعية واجتماعية وأدبية وفنية ورياضية… يؤكد هذا أنه مع تدريس العلوم الشرعية في المساجد قديما والمؤسسات العلمية لتخريج أصحاب الوظائف الدينية، كانت تدرس علوم وتقنيات لتأهيل الأطباء في المشافي، والفلكيين في المراصد والكتاب في الدواوين، والمهندسين للإعمار والبناء، مما كانت معه التربية الإسلامية تزاوج في تكوينها بين الشرعي والعلمي بين الديني والدنيوي. وكذا القيمي، ففلسفة التربية الإسلامية، تستحضر فيما يعتبر تربية اجتماعية أو اقتصادية أو علمية، أو مالية في دنيا الناس، البعد القيمي الأخلاقي -الديني- الغائب عن التربية الغربية-فنحن عندما نتحدث عن التربية الاقتصادية مثلا نبحث فيها بما يوفق بين الموارد المحدودة وحاجات الإنسان في ضوء الموارد المتاحة وفي غير تبذير أو إسراف، من منطلق أن الثروات والموارد والأموال ملك لله، والإنسان مستخلف فيها، وملكيته لها ملكية انتفاع محكومة بمقاصد الشريعة التي هي عقد توكيل واستخلاف.
وبعض الذين لا يعرفون حقيقة التربية الإسلامية ، قصروها على تربية القرآن والسنة، حفظا وتلقينا، وألغى الموروث الثقافي وما ابتدعه علماء المسلمين من معارف وفنون وآداب، وما صنفوه باجتهادهم من علوم وتقنيات، وما أبدعوه في مجال العلوم الكونية والعقلية والإنسانية لتكوين الأطباء والمهندسين والفلكيين، وغير ذلك، وجامعة القرويين التي تمثل ذاكرة الأمة العلمية والثقافية والتربوية كانت تخرج بعلومها الإسلامية المشتركة علماء الدين والدنيا، وما زالت خزانتها تزخر بمراجع وكتب في مختلف العلوم بما فيها الرياضيات والفلك والطب وغيرها.
ومن ثم فإننا ندعو واضعي المناهج ومؤلفي الكتب المدرسية في المواد العلمية التخصصية استحضار الرؤية الإسلامية في مسائل العلوم الكونية وقضاياه، وخاصة تلك التي تدور حول: علم الكون: من كيمياء وفيزياء وعلوم حياة… كما ندعو مؤلفي كتب التربية “الدينية” ألا تخلو مما يشعر المتعلم والقارئ بأن الدين لا يتوجه إلى العصر الحاضر ولا يهتم بقضاياه، وبهذا وذلك ترتفع بالخطاب التربوي الإسلامي إلى ما جاء من أجله.
وهكذا يتبين أن التربية الإسلامية في مفهومها الصحيح ليست مرادفة للتربية الدينية المنقوصة التي تهدف إلى ما اصطلح عليه بالتربية الروحية وليست تربية حفظ واستظهار، ولكنها تربية أوسع من ذلك واعم وأشمل، ظهرت مع ميلاد الأمة الإسلامية في عهود ازدهارها وسيادتها، تعددت مصادرها وأنواعها وأشكالها وأساليبها، ساهم في إنشائها وبنائها وإشاعتها أجناس عربية وفارسية وتركية وأمازيغية عمت الأرجاء لعصور مديدة ثم انتهت في ومضات وأصبحت في ذمة التاريخ، فهل نحن قادرون كعلماء وتربويين ومفكرين إسلاميين على أن نعيد إليها أدوارها وإشعاعها الحضاري وبالتالي مفهومها الإسلامي الصحيح.
إنها التربية التي ولدت كاملة وناضجة ومحكمة، لأنها تربية الإسلام، كما جاء بها القرآن وبينتها السنة النبوية، صاغها الله تعالى وألزم بها نبيه وتكونت بها خير أمة أخرجت للناس: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه”(موطأ مالك):
والمطلوب هو العودة إلى الأصول، وإحياء التراث التربوي وإخضاعه للتجدد والتطوير لإبراز المفهوم الصحيح للتربية الإسلامية، وتصحيح حضورها في كل الدراسات وحقول المعرفة شرعيا وعلميا وعقليا وإنسانيا.
- ثنائية وانشطار:
إن مما عمق من تغييب المفهوم الحقيقي للتربية الإسلامية، ما حدث في عهود الاستعمار الأوربي الذي فرض فلسفته للتربية على تعليمنا، حيث قسم التعليم إلى ديني/شرعي تقليدي/عتيق… وعصري علمي حديث، وهو تقسيم دخيل على التعليم عندنا، فرضه الغرب الأوربي عندما استعمر البلاد الإسلامية، ونشأ عنه انشطار في العقل والتفكير والثقافة بين المغاربة والمسلمين عامة، وأفرز ثقافتين متباينتين: إحداهما تتعامل وتعالج قضايا الدنيا بمختلف مجالاتها، والثانية تتعامل مع ما اصطلحنا عليه بالثقافة الدينية الروحية: العبادات والشعائر والأذكار، مما أقام حاجزا بين الدين والدنيا ضدا على تعاليم الإسلام قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (الأنعام: 162) وأعتبر بحق ضربة قاسمة للتربية وللعلم بمفهومه الإسلامي الحقيقي وللثقافة الإسلامية، وللدين نفسه، أبعدت الدين عن الحياة، والحياة عن الدين، وأحدث شرخا في العقل الإسلامي الذي تفكك وأعيد تركيبه وصياغته من جديد على مقاس صانعيه بما يحقق التمزق الفكري والانشطار الثقافي، ويساير الفلسفة التربوية الغربية –القائمة على المادية الجدلية- التي أبعدت الموروث الديني عن حياتها السياسية والثقافية والاجتماعية، وهذا الانشطار والازدواجية التعليمية التي خطط لها الاستعمار الأوربي عندما استعمر البلدان الإسلامية حاملا معه مخطط الغزو الثقافي وكان له ما أراد، جعل الخريجين من الكليات العلمية على اختلاف تخصصاتهم لا يعلمون إلا النزر القليل عن دينهم وثقافتهم، مما جعل بعضهم يعيشون شبه مقطوعي الصلات بهويتهم بسبب ضحالة ثقافتهم الإسلامية ، ونحن لا ننتقص من أهمية هؤلاء الخريجين أو ما اصطلحنا على تسميته بالأطر العلمية والتقنية في الاستجابة لاحتياجات الأمة وتنميتها عمرانيا ودنيويا، ولكن كم كان وضع هؤلاء ونفعهم للأمة والأوطان سيكون أكثر نفعا وإفادة لو تهيأ لهؤلاء أن يتعرفوا على ثقافتهم الإسلامية ويدرسوها وينهلوا من منابعها حيث التجانس الثقافي والتكامل المعرفي.
وفي الزاوية التعليمية الأخرى نجد تعليما دينيا تقليديا منقوصا تقوم مناهجه ومقرراته التعليمية على العلوم التي اصطلحنا على تسميتها بالشرعية –واللغوية مع تحفيظ القرآن الكريم وبعض المتون وانطلاقا من كتب ومراجع تراثية يتعامل معها طلاب هذا التعليم من منظور التصديق القلبي والاقتناع المسبق بوجوب أخذ ما ورد فيها على أنه فوق النقاش أو إعمال العقل، بله النقد الموضوعي أو التقويم العلمي، وذلك بسبب الخلط بين المقدس الديني من كتاب وسنة مما يستوجب التقديس والتعظيم، وبين الفهم البشري للوحي الإلاهي والموروث الثقافي الذي أنتجه الفكر الإنساني.
- انعكاسات الثنائية:
وقد انعكس هذا النموذج الغربي المعاصر/تقسيم التعليم إلى ديني تقليدي/وعصري حديث –الذي ناسب علمنة الحياة والفكر والثقافة عند الغربيين- على الحياة عندنا نحن المسلمين وطبع واقعنا الراهن العلمي والثقافي والفكري والسياسي، مما أجج الصدام والصراع –لا التنافس- بين موروث وتراث ثقافي وحضارة بقيمها الروحية والمادية معا، وآ خر ينتمي إلى العصر الحديث بقيمه المادية الدنيوية. إنه انشطار بين القديم المتجدد، والجديد المعاصر أخذ شكل صراع بين القديم ينتمي إلى “الأنا” والآخر الذي يحسب على الجديد…
هذا الانشطار والثنائية الذي عرفته منظومتنا التعليمية-ولا أقول التربوية-والذي يعتبر بحق ضربة قاسمة للثقافة الإسلامية والعقل المسلم أقام حاجزا بين الدين والدنيا…جعل علماء التربية في عدد من البلدان الإسلامية يستشعرون خطر هذه الثنائية على الإنسان والأمة والوطن ويسعون إلى سد هذه الثغرة العريضة في منظومتنا التعليمية وذلك بالسعي إلى التقريب بين التعليمين التقليدي والعصري، وتأسست لهذه الغاية لجن علمية تربوية –في بعض البلدان- للتقريب بين المقررات الدراسية في التعليميين ما زالت تراوح مكانها، وذلك بإدخال العلوم الحديثة واللغات الأجنبية إلى التعليم الديني التقليدي ظلت تعتبر هامشية تدريسا واختبارات وتقويما، وإدخال أنصبة من العلوم الشرعية والإنسانية إلى المعاهد العصرية، لكن هذه التجربة العلمية لم تحقق الأهداف المنشودة باعتبار أن مجرد تقديم قدر من العلوم الشرعية إلى الكليات العلمية ظل على هامش المنهاج المقرر فيها، مما يستدعي صيغة جديدة تقوم على تعريف الطلاب بالقيم المستمدة من الشريعة الإسلامية وإبراز مقاصدها مما يكون له التأثير على عقول الطلاب تمثلا واستيعابا وإيمانا، على غرار ما حققته الجامعة الإسلامية الماليزية كما وقفنا على ذلك، ومن ثم فإن منظومتنا التربوية ما دامت تعيش هذه الازدواجية أو هذا الانشطار فإنها ستبقى حاجزا بين التوافقات الفكرية والثقافية… وسيبقى تعليمنا يسير في خطين متقابلين، ما يباعد بينهما أكثر مما يقرب. وللخروج من هذه الثغرة التربوية لا بد من اعتماد نظام تعليمي متكامل ذي مرجعية توحيدية يعطي لموروث الأمة موقعه وحجمه، دون إغفال معطيات الواقع ومستجداته بما يضمن مسايرة النهضة العلمية الحديثة ومواكبة التطور والنماء.
العلامة عبد الحي عمور
رئيس المجلس العلمي المحلي لفاس