تتمثل أهمية الدراسة الدعوية للسيرة النبوية في أنها تنتج العلم بأمور تهم الدعوة والقائمين بها، ومن أبرز تلك الأمور ما يأتي:
أولا: معرفة ما ينبغي أن تكون عليه شخصية الداعي؛ بما يحمله معنى الشخصية من صفات واعتبارات متعددة والتي منها:
الصفات السلوكية والخلقية أو العلمية والعملية أو الذاتية والخارجية أو غير ذلك؛ من صفات هذه الشخصية، وطرق إعدادها وكيفيات إكمال ما ينقصها، وعوامل ثباتها، ومعرفة حدودها، وإمكاناتها ومسؤولياتها.
ولما كانت شخصية محمد عليه الصلاة والسلام هي الشخصية البشرية الأكمل في مجال القيام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن دراسة سيرته دراسة دعوية جديرة بإبراز النموذج الدعوي الأكمل.
ثانيا: معرفة المضمون الذي يدعو إليه الداعية نوعا وكما وقدرا، وما يستلزم ذلك من مراعاة ظروف تقديم ذلك المضمون بحسب الحال والمناسبة. ولا شك أن معرفة هديه قبل الإقدام على تقديم مضامين الدعوة، وخصوصا في الأحوال المتغيرة والبيئات الجديدة؛ سبب بإذن الله تعالى للتوفيق والتسديد، والخروج من مزالق الاجتهاد غير المهتدي بسيرته عليه الصلاة والسلام.
ثالثا: معرفة الكيفيات التي يدعو بها الداعية، والوسائل والأساليب المناسبة، وضوابط تلك الوسائل التي لها حكم الغايات، ومدى المسؤولية تجاه ما يستجد من وسائل الاتصال والتأثير، وأهمية الإعداد لمعرفة الوسيلة كما يستعد لمعرفة المضمون؛ كل ذلك وغيره يجد له الداعية في سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام جوابا يجعله يقدم على بصيرة، أو يحجم عن بينه.
رابعا: معرفة أصناف المدعوين وخصائص دعوة كل منهم. فدعوة النصارى فيها ما يختلف عن دعوة المشركين، ودعوة المسلم العاصي فيها ما يميزها عن دعوة الكافر، ودعوة المجادل المعاند غير دعوة الباحث عن الحق الراغب في الوقوف على الدليل، وهذا كله يعلم من سيرته عليه الصلاة والسلام بل إنك لتجد شواهد الكتاب والسنة في ذلك مسائل رئيسة في ما سجلته كتب السيرة ومصنفاتها.
خامسا: في دراسة السيرة دراسة دعوية معرفة تطور الدعوة إلى الإسلام منذ بدايتها إلى أن عمت وانتشرت. وكيف أن هذه الدعوة كانت تنتشر ضمن إمكانات البشر وحدود قدراتهم(1)، وأن توفيق الله تعالى يحوط الصادقين المؤمنين كما أن بلاءه قد يصيبهم في مواضع ومواقف متعددة اختبارا وامتحانا، وما يتبع ذلك من معرفة عوامل النجاح والفشل بالمقياس الرباني فلا اغترار بقوة ولا تقصير في بذل سبب وعدة.
والمتخصصون في الدعوة هم أولى الناس بهذا الاهتمام فعليهم يقع الجزء الأكبر من مسؤولية التأثير الإيجابي في الأمة وحفظ مفهوم الدعوة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ونشر هدي الله تعالى بين عباده في كل مكان، ولا شك أن فهم هدي المصطفي في سيرته، واقتفاء معالم هذا الهدي، ودعوة الناس إليه، هو طريق الاستقامة على هذا الدين، وهي – أي السيرة – مدخل عظيم الفائدة في الدعوة بها وإليها. يقول ابن حزم (ت 456 ﻫ): “إن سيرة محمد لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى”(2). وهذا ما وضّحه شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- بقوله: “وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كلّ ما يقدّر ويخطر بالبال. فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده”(3). فاضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار، وحاجتهم إلى المبشرين والمنذرين لا تماثلها حاجة.. وللعلامة ابن القيم – رحمه الله – كلام نفيس يُشبه كلام شيخه ابن تيمية – رحمه الله – ولا عجب! فكلاهما يصدر عن مشكاة واحدة. يقول – رحمه الله: “فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتة إلا على أيديهم. فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به؛ فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميّز أهل الهدى من أهل الضلال. فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها. فأي ضرورة وحاجة فرضت؟ وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة. فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسّ بهذا إلا قلب حيّ. وما لجرحٍ بميتٍ إيلام(4).
والدعوة إلى الله في واقعنا الحاضر تحتاج إلى ذلك أيما حاجة، بل إن كثيرا من الإجابات للأسئلة التي ترد كثيرا في هذا العصر عن قضايا الدعوة ومناهجها؛ يمكن الحصول عليها من هذا النظر المتخصص في سيرة الرسول ، هذه السيرة التي تمثل المنهج الأمثل للدعوة إلى الله تعالى، والتي يلتقي عند تبجيلها وتوقيرها والوقوف عندها كل من صح إيمانه، وصدق في اتباعه لمحمد عليه الصلاة والسلام، فيكون ذلك سببا في وحدة الدعوة والمؤسسات والجماعات الدعوية، بحيث يكون اختلافهم بعد ذلك – إن وجد- اختلاف تنوع لا تضاد.
د. امحمد الينبعي
———————
1 – مصادر السيرة النبوية وتقويمها للدكتور فاروق حمادة. ص: 17.
2 – الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم: 2 / 90، وانظر ما كتبه الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله حول ميزة السيرة النبوية في كتابه السيرة النبوية دروس وعبر. ص: 15 – 23.
3 – النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية:
4 – زاد المعاد في هدي خير العباد: 1 / 69