إن البناء الحضاري إنما هو بناء لمقومات الأمة، ورعاية لمبادئها، وإن الحضارة أشبه ما يكون ببناء، فكما أن البناء يحتاج إلى مواد أساسية وأخرى تكميلية فكذلك الحضارة ، وكما أن البناء يحتاج إلى مراحل في الإنجاز فكذلك الحضارة. لذلك صار واجبا تحديد الأولويات الثابتة التي تضمن مراعاتها سلامة البناء ثم تحديد الأولويات المتغيرة بحسب كل مرحلة مرحلة.
وبناء على هذا فإن الحضارة نسق متكامل من العناصر العقدية الإيمانية، والفكرية النظرية، والعلمية العقلية، والعناصر العملية الأخلاقية والتدبيرية، والعناصر الفنية بجميع أصنافها ومراتبها، وجانب الصناعات والمهارات والحرف المهن، وجانب الأمن والدفاع لحماية الجسم من الأجسام الغريبة المهددة له بالفناء.
ورغم أن هذه المكونات تتسم بطابع التداخل والتشابك والتعالق والترابط البنيوي الذي يصعب فيه إيلاء عنصر ما أهمية أكثر من الآخر، إلا أنه من منظور الأسبقية الزمنية، ومن زاوية العلية والسببية نلحظ مجموعة ضوابط تسعف في تحديد العنصر الأسبق من غيره، والعنصر الذي هو علة في غيره، والعنصر الذي يمكن أن يكون بمثابة علة العلل، ومبدئها الذي عليه يتوقف وجود الباقي.
ومقياس سلامة السلوك الحضاري للأفراد والجماعات والأمم إنما يقاس بمدى الدقة في تحديد الأولويات بدقة وبمدى القدرة على التكيف مع المستجدات التي يمكن أن يكون لها أثر في زحزحة سلم الأولويات قدرا من الزحزحة تساعد في التكيف لا التوقف، وتمكن من خدمة الأولويات بوسائل جديدة وأساليب خادمة للأصل وليست مبطلة له.
وعلى قدر سعة مكونات الحضارة ومجالاتها تتعدد الأولويات، وداخل كل مجال تتفاوت مراتب الأعمال والتدابير والأهداف والمقاصد.
ولا يعني أحيانا العمل بالأولويات إيلاء عنصر ما أهمية وترك العناصر الأخرى مؤجلة إلى حين الانتهاء من الأول، فكثير من الأولويات يمكن أن تنجز بالتوازي ولا يضر توازيها مراعاة مبدأ الأولويات، كما أن العمل بالجمع بين أولويات عديدة لا يعني تساويها في حجم الإنفاق والبذل فقد تعمل الأمة بالأولوية العلمية والاقتصادية والأمنية معا لكن بتفاوت في حجم الإنفاق والتدبير والأهداف بحسب ما تقتضيه المرحلة، على أنه يجب عدم إغفال أن بعض المجالات الحيوية في البناء الحضاري تستلزم دوما حضورها في أعلى سلم الأولويات، ولا تحتمل تأخيرها وتقديم غيرها عليها.
وإن العمل بفقه الأولويات لمن شأنه أن يبصر الأمة بأهدافها ورسالتها، وما يلزمها من المعدات والوسائل والأساليب، ويمكنها من تحديد مراتب أولوياتها وقوة الاحتياج إلى كل صنف ووقته في كل مجال وقطاع، ويحفظ تصرفاتها من العبث ويصونها من الفساد، ويرقيها في تحصيل المكتسبات والبناء المتواصل، والإضافة المستمرة كما وكيفا إلى رصيد المنجزات، وتحقق الأمة بذلك التوسع الشمولي والنمو الطبيعي، وتؤدي واجب الوقت الذي لا تبرآ ذمتها إلا بأدائه فردا عينيا وكفائيا.
وإن التربية على الالتزام بتدبير الحياة وفق الأولويات لن يكون مثمرا في الأمة إلى يوم يصير قناعة إيمانية للفرد المسلم وجزء لا يتجزأ من إيمانه يبني عليه أعماله، وسلوكا يوميا يصوغ به حياته وسيرته، ولن يكون مثمرا أيضا إلا يوم تجده حاضرا في التدابير اليومية العملية للأسر والمؤسسات والقطاعات وسائر الإدارات، ولن يؤتي أكله حق الإيتاء إلا يوم تبني الأمة ذاتها ومشاريعها الصغرى والمتوسطة والكبرى، النظرية منها والعملية وفق أهداف ومراتب ومراحل تتدرج في تنفيدها تدرجا طبيعيا تترابط فيه الأجزاء وتتعالق الوحدات وتتكامل الأعمال والمنجزات تكاملا بنائيا يحصل منه تطور الأمة وازدهارها في ما يحقق كل مصلحة ويدفع عنها كل مفسدة.
وها هنا يمكن القول إن مراعاة الأولويات في البناء الحضاري يمكن أن تتأسس على معالم كبرى وضوابط كلية بينها كثير من العلماء قديما وجددها المحدثون تجديدا مناسبا لحاجة الأمة، ومن ذلك تمثيلا لا حصرا:
• أولوية إصلاح خلل الإيمان على خلل العمل، والفكر على السلوك.
• أولوية التخلق بالدين على التوسع المعرفي والازدياد العلمي.
• أولوية الكليات على الجزئيات، والأصول على الفروع.
• وأولوية البناء على الهدم، والاشتغال بالعمل على الانشغال بالرد والجدل.
• وأولوية وحدة الأمة على حساب المصالح الذاتية والفئوية الضيقة، والاتفاق والائتلاف على الشقاق والاختلاف.
• أولوية العمل بالمشترك والمتفق فيه بدل الانشغال بدائرة المختلف فيه.
• أولوية العمل بأقوى المصلحتين وأعمهما نفعا، والعمل بدرء أكبر المفسدتين وأعمهما ضررا.
• أولوية التخطيط البعيد والشامل على التخطيط الآني والجزئي والمرتجل.
• أولوية الميسور على المعسور، والأخف على الأثقل، واستثمار الممكن بأقصى قدر ممكن.
• أولوية السلم على الحرب، والحوار على التعصب والإقصاء.
وعموما فإن من القواعد المثلى في البناء الحضاري قاعدة مراعاة الأولى في كل أمر من أمور الآخرة والأولى، والعمل بها لا يعود على الأمة إلا بالإرشاد إلى الأنفع وتحقيق الأصلح.
الطيب بن المختار الوزاني