هي غربتنا نحن.. تلك التي جعلت غربة القرآن تصبح هي الأصل في معاملاتنا وعلاقاتنا. وإن كان كتاب الله سبحانه مصونا عن الغربة إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وإنما هو مجاز لفظي لتصوير حالة من الطمس التي أصابت قلوب ثلة من المسلمين، فغدا القرآن مكسبا وصوليا لانتهازيين يشهرونه حتى في الأماكن التي لا تليق بجلاله وقداسته. وكثيرون منا يعرفون قصة الفتاة التي كانت ترتدي لباس البحر، وكانت تستعد للصعود للمنصة لتمر أمام لجنة الفحص الدقيق حتى لا نقول الوقح الخليع لتضاريس جسدها حين نادتها أمها وذكرتها بقراءة سورة الفاتحة قبل الصعود للمنصة…
هي إذن الحقيقة الكبرى التي يزداد معها المرء يقينا وهو يتابع ما يجري في المجال الديني من محاضرات ومسابقات ودروس ويرى حجم الحاملين لكتاب الله، وتلك الاحتفالات التي ترافقها بزينتها وبهرجتها أن الغربة لا تني تستفحل، إذ تنتشر في صفوف جملة من القراء ممارسات تناقض المقاصد العظيمة للقرآن الكريم. وقد كنت بنفسي شاهدة على هذه القطيعة بين كتاب الله وسلوكيات مستفيدين من دروس حفظ القرآن الكريم حيث أثارني إعلان بمدينة مغربية لحفل مخصص للأطفال الذين يحفظون القرآن، فولجت القاعة ضمن عموم أكثره من الأمهات والأطفال الصغار..
بداية كانت الجلبة على أشدها وخصومات الصغار لا تني تندلع بين المدرج والمدرج، في حين كان مقدم البرنامج الاحتفالي يواصل حديثه عن أهمية حفظ القرآن الكريم وشروط الحفظ وصفات الحامل لكتاب الله ، فكانت كلماته كصيحة في واد، إذ ظل الأطفال يتناوشون.. بل رأيت أحد الصغار وهو من المرشحين للقراءة يتوسل لصغار آخرين ليتزاحموا ويجدوا له مكانا، لكنهم رفضوا بشكل قاطع أن يفسحوا له مكانا بينهم، بل ورأيت منهم من استرخى في مقعده أكثر ليشغل كل مساحة الكرسي، وهو بينهم أهون من الأيتام في مأدبة اللئام.. والأدهى من كل ذلك أن المنشط كان يتكلم عن النظافة والحفاظ على البيئة وعلاقتهما المتينة بالمنظومة الإسلامية، لكن ما حصل عند الخروج أثبت بشكل تام أن القطيعة مخيفة بين التعاليم السامية للإسلام في المجال إياه والتربية الواقعية لتلك الثلة من الأطفال، فقد وزع منظمو الحفل حلوى الفانيد على الصغار وهم يغادرون.. وخلت قاعة الحفل إياه لكن ما بدا جليا بعد ذلك كان مخجلا حقا، ويرسم اللوحة الحقيقية لواقع حفظ كتاب الله ، فقد امتلأت ممرات القاعة بالأزبال التي خلفها الأطفال خاصة تلك المتعلقة بأغلفة الحلوى.. وكأن المنشط ما أدرج آيات وأحاديث عن النظافة.. وكأن الأطفال ما أدركوا مقاصد تلك التوجيهات التي كانوا يتنافسون في ترتيلها قرآنا كريما لم يتجاوز تراقيهم. وما لنا نتوقف عند جفوة الصغار وجفوة الكبار أدهى وأمر..
ويعرش السؤال الجارح الكبير غصة حارقة في القلب قبل الحلق: هل يدرك الذين يتفننون في تجميل واجهة الأعراس القرآنية بأصوات الحافظين من الصغار والكبار ويشعلون فتيل التنافس بينهم لنيل المكافآت المجزية، أن غربة كتاب الله في الأنفس والآفاق تتعمق، وأن هم الإيمان يجب أن يغلب هاجس الاستعلان بالأعداد الغفيرة للحافظين.
وما أصدق الإمام علي بن أبي طالب الذي قال: “لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها”.
ويورد الدكتور مجدي الهلالي صاحب الكتاب الماتع الشهير “غربة القرآن” هذه الحكاية العميقة الدلالات حول أهمية التدبر التي تقول إن رجلا كان يبني جدارا له، فمر به رجل آخر فسأله عن آخر آية أنزلت ذلك اليوم فسرد عليه الآية الأولى من سورة الأنبياء: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، فنفض يده من البنيان وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب للناس حسابهم.
هل يكون الوحيد الذي اقترب حسابه وحسابنا الدنيوي كما الأخروي يقترب من الصفر، ونحن في غفلة معرضون وفي خوض لاعبون، لا ننفض أيدينا من بنيان، وأرجلنا من تيه إلى تيه بين مشاغل لا تنتهي إلا لتعوضها أشغل منها، ورسول الله الذي أمضى حياته الشريفة في تسديد عباداتنا وسلوكياتنا وتنبيهنا إلى هذه المنزلقات الحالقة، يقول: «تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرأه لله» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 258).
وفي السياق ما أجمل الوصية التي اختتم بها الدكتور الهلالي كتابه “غربة القرآن” إذ يقول: “… ينادي مناد يوم القيامة ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله إلا حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم”.