ضيق التّنفّس عندنا يبدأ من قلّة تقديرنا لذاتنا المسلمة، هذه الذّات التي ترجم لها سيدنا عمر بن الخطاب بقوله: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”، فالحرية ميزان الوجود الذي لا تخطئ معه مقاييس الإحساس بالكينونة، نَسيمُه الّذي يحرّك الداخل الإنساني لأن يصنع العجيب، والمبهر، وغير المتوقع؛ لأنه ببساطة يدفعنا لرمي عقدة النقص، بعيدا عن عالمنا، ولبس عباءة المنتمي لتراب التكريم، الذي جعل الناس سواسية، لا تفاضل بينهم إلا بمقدار ما يحمل القلب والعقل من قيم أعلاها تقوى الله، أين تتجلى الحكمة وتنبت القوة ويزيد تفاعل الإنسان مع ما يجلب للبشرية الأمن والأمان وفق فلسفة لا تحتقر على وجه الأرض شيئا، ولكنها في ذات الوقت لا تمنح كل شيء تفريطا في حقها في الوجود، انطلاقا من فكرة تمجيد الآخر المختلف لأنه لا يشبهنا، ولأنه يملك من مقومات الوجود المادية ما يدفعنا للعيش في ظلّه خانعين نؤسّس لثقافة الإذعان ونورّثها أبناءنا..
الحياة جميلة بقدْر ما تعطيها من قدر، وقدرُها يبدأ بتقدير الذّات التي ترفض الظلم، وتتحدّى جنونه بالمقاومة، وتفعيل الإيجابي في الحياة، والتّأكيد على أنّك أنْت متى ما استطعتَ أن تقول: لا، لكلّ من يكره الجمال، ويتفنّن في زرع القبح. فما الذي يمكن أن يمنحه الفاشلون للطامحين، سوى كثير من قلة التقدير، لسبب بسيط هو أن فاقد الشيء لا يعطيه، وإلاّ كيف يمكن تفسير انتكاساتنا النفسية والاجتماعية، وترهلنا الحضاري، الذي نراه يتنامى ويكبر في كل حين لتكبر معه هزائمنا.
هذه الهزائم التي نراها في الطفل وهو يتمرد على براءته، التي صيغ منها كل جمال فطري، وفي الشباب وهو يسطّر لحياته وفق هواه، بعيدا عن أيّ تخطيط معرفي ناضج، أو قراءة مرجعية واعية، يتوخى منها اكتساب الخبرة وإضافة الجديد، لتصوّراته التي تحتاج إلى توجيه أو صقل أو تأكيد الفاعلية، نراها في الأولياء وهم يتنصّلون من مسؤولياتهم بحجّة الهرج اليومي، والعناء المعيشي الذي أرهق سواعدهم وجيوبهم، نراها في الأمّهات وهنّ ينغمسن فيما تقدمه المسلسلات من أوهام، وما تعرضه دور الأزياء من زينة وبهارج، فقدت معها النّساء كثيرا من مباهج الأنثى وحسّها المتسامي، ورقيّها المعهود، نراها في الفتيات وقد أكلت عقولهن تكنولوجيا اللّعب بالكلمات عبر الحوائط الفايسبوكية التي لا تهدأ ليلا أو نهارا تشتغل أكثرها للفراغ إلا فيما ندر، نراها في العلاقات الأسرية، التي أكلها الجفاء الإنساني، الذي نمّ الأنانية واللامبالاة، وفتح المجال واسعا، لتضخّم الأنا وغياب المقصدية، وطغيان النّفعية، وبيع الأخوّة والأبوّة والبنوّة، وذوي القربى في سوق الزوائد الدودية… نراها ونراها… وبين الرؤى كثير من الوجع الذي يلفظ هذا، و يتمنّى أنْ لو عادت الحياة إلى طبيعتها الأولى، وزينتها الأولى وبهائها الأوّل، الّذي جمّله إحساس الإنسان، بأخيه الإنسان.
صحيح، أنّ ما هو موجود على السّطح، مغري، وأنّ واقع النّاس، يشي بأنّ الجنة، هو أن تمتلك ما بيدك، ما دام الحلم هو بعض الوهم، الذي يبيعه تجّار الكلام للبسطاء من النّاس، كي يلبسوا معاني: الإيمان
والقناعة والصبر والعمل والاتزان والرضا بما قسم الله عزّ وجلّ، ويجعلوها مشاجب تقيهم شرّ الفتنة والكفر بالمعنى الإنساني. إنّ تشوّه الرؤية هو من أحدث هذا الشرخ، وغيّب مفاهيم الآخرة التي صدّرت لنا الغيب على أنّه أجمل ما أهدى الله للبشريّة، فقد تركه عنده، ليمنح الإنسان فرصة للتعايش مع الذات، والواقع، وصناعة الحياة بما يضمن كرامته وخلوده: نشقى وفي شقائنا أجر مضاعف، ونلهو وفي لهونا غفران، ونتّكل وفي اتكالنا كفاية، ونطمح وفي طموحنا كثير من التوفيق، وقد نتعثّر وفي تعثّرنا أجر المجتهد، فإن غاب هذا ولد أمير الخراب، واستعصى على العقلاء كبح جماحه.. أوَ لَسْنا في زمن أصبح الحليم فيه حيرانا؟؟