كانت لحظة فارقة بجميع المقاييس، تلك التي واتت سهام عندما تأتى لها أن تمسك بخيط رفيع في خضم الشبكة العنكبوتية المعقدة الشعاب والمترامية الأطراف، شدت بعنف وإصرار على ذلك الخيط حتى لا يفلت من بين أصابعها، ولا غرو، فقد ظلت تتعقبه بشغف كبير، خاصة وأن من شأنه أن يسلمها -إن مرت الأمور على ما يرام- إلى الضفة الأخرى، إلى “عالم الأنوار”، أي ما وراء البحار، بدأ تيار “الشات” يحملها برفق على أمواجه العذبة الدافئة، ويرسم في خيالها وبين عينيها عالما رحبا مزروعا بالأزهار والورود، وبكل ما يسر ويبهج، عالما غاية في السحر والجمال، كان شعورها بالسعادة شعورا يند عن الوصف والبيان، خاصة وأن قطار الزواج كاد أن يفوتها، إن لم يكن في حسبان ذويها في حكم الهارب منذ زمان. كانت الرغبة الجارفة في كيان سهام، في أن تتوج جلسات “الشات” الندية بالاقتران بـ”جون” تحملها على عرض صورتها في إطار بالغ الروعة والجمال، ولأجل ذلك كانت لا تدخر جهدا في الظهور لجون في مظهر المرأة الطيعة الذلول، التي تبذل قصارى جهدها، وتسخر كل عاطفتها لإسعاده وإرضائه، ولأن تكون في مستوى ما يطمح إليه ويرجوه، وكان هو يدرك هذا النزوع الجارف فيها أيما إدراك، ويوظفه في إملاء ما يريد، وقتما يريد، ويتخذها أداة طيعة لبلوغ مآربه وأطماعه، ولم تكن هذه الصورة الغريبة من المطاوعة والإذعان لتخدش صورة سهام في نظر نفسها، فصاحب الحاجة أعمى كما يقال، والحاجة في هذا السياق مشروعة على كل حال. أمر واحد فقط اعتبرت سهام أن من الضروري أن يكون شرطها وطلبها على طاولة التفاوض المتمحورة حول موضوع الزواج، هو أن يعلن جون إسلامه، وهو ما وجد صدى في نفسه، فرحب على الفور، وهو ما كان سلاحا كافيا في حوزة سهام في معركة الإقناع التي تنتظر خوضها مع أبويها اللذين عانيا ويعانيان الأمرين، جراء شبح الجدب الذي يخيم على أسرتهما، ليس فقط فيما يتعلق بطرق بابهم طلبا لسهام، بل لأخواتها الثلاث اللائي يسبقنها في الترتيب، وهن الآن راضيات بما قسم الله لهن، ويملأن حياتهن في تقديم ما يستطعنه في خدمة أسرتهن، والسهر على أبويهن اللذين وهن العظم منهما واشتعل رأسهما شيبا، فما أن بشرتهما سهام بأنها بصدد نسج علاقة مع جون الفرنسي الجنسية الذي يطلب يدها ويزمع إعلان إسلامه حتى بادر الأب بالقبول الفوري، وكاد يطير فرحا، وطفقت الأم تقبل ابنتها بحرارة، ولم يمنعها كبر سنها من إطلاق زغرودة مبحوحة سمعها الجيران فأقبلوا على الفور مهنئين، معبرين لجيرانهم عن مشاركتهم إياهم فرحتهم، واستعدادهم لبذل ما يستطيعون لمد يد العون والمساعدة لهم.
مرت الأيام جذلى مشحونة بالعواطف النبيلة، مفعمة بالآمال المحلقة في الآفاق، وكان خيال سهام، في غاية الإشراق، فهو يشتغل بدون انقطاع في رسم معالم مستقبل تحقق فيه الأحلام، ويندحر الحظ العاثر، وتنزاح الغمة عن آل البكاي، فالهشاشة وقلة ذات اليد قد عششتا في ساحتهم، ولم تكد تبرحها حتى عندما دخل ميمون سلك الوظيفة في اللحظة الأخيرة قبل استنفاد سن التوظيف، فقد ظل يجتاز المباراة تلو المباراة، حتى فتح له الباب في الرمق الأخير، وكان عليه أن يرهن سنوات من عمله لتفتيت إرث الدين الثقيل الذي كان يجثم على كاهله وكاهل أسرته، ويتجرعون مرارته في كل لحظة من لحظات حياتهم الحبلى بالمعاناة والآلام.
وفي خضم الأحلام، وعبر موجات “الشات”، وأحاديثه المعسولة الواعدة، جاءت البشرى من جون ممثلة في طلب رقم حساب سهام، ليودع فيه دفعة أولى من الأموال تعد بعشرات آلاف الدراهم، لتقع كالبلسم الشافي على نفوس أفراد آل البكاي، ويبادروا من باب شكر النعمة إلى صنع طعام للفقراء والجيران والأصدقاء.
لم تستطع سهام أن تحفظ ما حدث في إطار السرية والكتمان، فكان لا بد أن تخبر بعض من تثق فيهم من صديقاتها، اللائي أبدت إحداهن لها إعجابها وغبطتها لها، وعبرت في نفس الوقت عن استغرابها لهذا العرض السخي والشديد الإغراء الذي لم يسبق لها أن سمعت بمثله.
وما هي إلا أيام معدودات حتى جاءت البشارة الثانية، متمثلة في قرب اللحظة السعيدة، لحظة كتابة العقد وإقامة مراسيم حفل الزواج البهيج في مدينة الرباط، غير أن جون شرط الانتقال إلى هذه الخطوة بموافاة سهام له بمجموعة من نتائج الفحوص والتحاليل، التي بعث إليها بلائحة خاصة بها عبر البريد الإلكتروني، فأبدت استكثارها لتلك التحاليل، واستغرابها لبعضها، وكونها غير مألوفة في مثل الحالة التي هم بصدد اجتيازها، وهي حالة الزواج، مما دفعها إلى أن تطلب منه الاقتصار على ما هو مألوف من الفحوص والتحاليل، غير أنه أصر على طلبه، مبررا إياه بمصلحة الأسرة ومستقبلها السعيد، فما كان منها إلا القبول والإذعان، ونظرا لثقتها العمياء في جون، فإنها لم تجشم نفسها مئونة استشارة بعض الأطباء المختصين، بل سارعت إلى إنجاز المطلوب دون أدنى تأخير، ثم موافاته بالنتائج كاملة غير منقوصة.
وبعد التوصل مباشرة بتلك النتائج، بعث جون على جناح السرعة والاستعجال بدفعة سخية من الدراهم هي أضعاف السابقة، وذلك من أجل إعداد لوازم حفل الزفاف، الذي عبر بأنه يريده مدويا وباذخا، وحدد موعد قدومه إلى الرباط، لوضع اللمسات الأخيرة للحفل الموعود. وعند الوصول إلى مطار العاصمة، كانت سهام في انتظاره بمفردها حسب طلبه، للقيام بجولة تعارفية تدوم يومين في إحدى مدن الوطن، ثم الذهاب لمنزل أبويها حيث ستجري مراحل التتويج، وتنطلق الأفراح باليوم الذي طال انتظاره لسنوات عجاف، وظل الأبوان وأفراد آل البكاي ينتظرون بشغف رجوع جون وسهام، وسط جو احتفالي بهيج، ولكن اليومين انصرما، ولم يعد الزوجان المرتقبان، انتظرت الأسرة يومين إضافيين، ملتمسة العذر لهما، فجون رجل أجنبي، ولربما شده سحر المناطق المغربية وجمالها، فظهر له أن يمددا وقت الجولة التعارفية، مر اليومان، ثم يومان آخران، ثم يوم آخر، ثم بدأ صبر العائلة في العد التنازلي، وبدأت الهواجس والشكوك تفترس قلوب آل البكاي، وخاصة الأب ميمون والأم جمعة، اللذين امتقع وجهاهما بصفرة الخوف والترقب، وفتحا صدريهما للمجهول، ولأسوأ الأخبار، ما الذي جرى، وفيم هذا التأخر عن الموعد المضروب؟ أي خبر مشؤوم يخبئه لنا الغيب بين ثناياه؟ يطلب العم بوجمعة من ابنه العيد أن يؤلف له رقم أخته سهام، لكن لا رنين ولا جواب، العلبة الصوتية هي وحدها من يجيب، يعيد والد سهام المحاولة تلو المحاولة لمرات عديدة، لا جواب، عيل الصبر وأوشك الأمل على الضياع، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لم يبق أمامنا إلا طرق باب مصالح الأمن، سارع العيد إلى القيام بالأمر، بعد القيام بالتحريات التي بذل فيها جهد مشكور، انكشف المستور، لقد تم العثور أخيرا على سهام في بيت مهجور، ولكن دون أجهزة ولا أحشاء، لقد أفرغت من كل شيء كما يصنع بالشاة تماما، وبقي جلدها، ورأسها المسمولة عيناه، ليشهد على أبشع جريمة، وأشنع غنيمة.
د. عبد المجيد بنمسعود