الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منّ علينا بمواسم الخيرات، وخصّ شهر رمضان بالفضل والتشريف والبركات، وحثّ فيه على عمل الطاعات، والإكثار من القربات، وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام، وأشرف من تهجّد وقام، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام، أما بعد:
عباد الله: أيها المؤمنون.. يا أتباع النبي العدنان.. يا طلاب الآخرة… يا عشاق أبواب الجنة يا عشاق باب الريان.. بعد أيام قليلة سيزورنا ضيفٌ كريم، وسيزورنا زائرٌ عظيم، يتذكرنا مرةً كل سنة، ضيف حُقَّ لنا أن يهنِّئ بعضُنا بعضًا بقدومه، وأن يستبشر المؤمنون بطلعته البهية، وبركاته الربانية، إنه شهرُ الصيام، إنه رمضان المبارك، كيف لا وقد كان الحبيب المصطفى يبشِّر به فيقول: «أتاكم رمضانُ، شهرٌ مبارك، فرَضَ الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدة الشياطين، لله فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حُرم»؛ (رواه النسائي في صحيحه).
فهنيئًا لنا إن أدركنا رمضان، وبُشرى لنا إن بلَّغنا اللهُ تعالى هذا الشهر الفضيل بفضله ومنه وكرمه، ورد عن ابن رجب رحمه الله تعالى أنه قال: “كيف لا يُبشَّر المؤمنُ بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يُغَلُّ فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمانَ زمان؟!”.
ولأن أجدادنا من عباد الله الصالحين عرفوا قيمة هذا الشهر الكريم؛ فقد كانوا ينتظرونه بشوق كبير، ويسألون الله تعالى أن يدركوا رمضان في العام المقبل، فهذا يحيى بن أبي كثير يتحدث نيابة عنهم ويصف أقوالهم فيقول: “اللهم سلِّمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبَّلاً”.
وهذا مُعَلَّى بن الفضل يصف أحوالهم فيقول: “كانوا يدْعون الله ستةَ أشهر أن يبلِّغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبَّله منهم”.
عباد الله: “بلوغُ شهر رمضان وصيامُه نعمةٌ عظيمة على مَن أقدره الله عليه، ويدلُّ عليه حديث الثلاثة الذين استُشهد اثنانِ منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فَرُئِي في النوم سابقًا لهما، فقال رسول الله : «أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاةً، وأدرك رمضان فصامه؟ فو الذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعدَ مما بين السماء والأرض»؛ (ابن ماجه).
فمن فضْل الله علينا، ومحبتِه لنا: أنْ نَسَأَ في أعمارنا، حتى نتزوَّد من خير رمضان هذه السنة؛ قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(يونس: 58)، فلا يفوز بنعمة إدراك رمضان، والتوفيق لصيامه وقيامه والعيش في كنفه والاقتباس من بركاته، إلا المبشَّرون برحمة الله.
فلنفرحْ بقدوم شهر القرآن، ولنعد العدة له بالطاعات والقربات ولنعاهد الله على ترك المعاصي، ومقابلتها بمضاعفة القربات، والإخلاص لله تعالى في رمضان في الطاعات، فكم من متشوفٍ إليه أقعده عن صيامه المرضُ! وكم من منتظِرٍ له باغتَهُ الموتُ وألمَّ به الأجل! فإن في كل نصف ساعة يموت قرابة 3600 شخص، فهذه فرصتنا أيها الأحبة التي آتانا الله تعالى في رمضان… «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»؛ (متفق عليه)، كل هذه الخيرات وكل هذه البركات حتى يعظم الرجاء، ويكثر البذل والعطاء، ويخنس العصاة بمعاصيهم، وتصفد الشياطين لِتُمنع من إيذاء عباد الله المؤمنين.
فمن رُحم في شهر رمضان فهو المرحوم، ومن حُرم فهو المَحْروم، ومن لم يتزود منه لآخرته فهو المذموم الملوم.
عن أبي هريرة أن رسول الله صعِد المنبرَ فقال: «آمين، آمين، آمين»، قيل: يا رسول الله، إنك صعِدتَ المنبر فقلت: “آمين، آمين، آمين”؟ فقال: «إن جبريل أتاني فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار، فأبعده الله، فقلت: أمين، قال: ومن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين».
أيها المؤمنون فلنرفع لواء المستجيبين لرب العالمين ولنستجِب للملائكة وهم ينادون ويرددون: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر”، كفانا بعدا عن الله وعن صراطه المستقيم.
يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَــــاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ
حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْرِ شَعْبَـانِ
لَقَدْ أَظَـــلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْــــــدَهُمَا
فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيَــــانِ
عباد الله: أيها الكرام… إن قِرَى الضيف من شيم الكرام، فكيف نقري ضيفا جاء بالخير من عند الكريم المنان؟ إنه شهر القرآن: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر(القدر: 1)، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان(البقرة: 185)، يقول ابن كثير: “يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأنِ اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم”.
سمعتك يا قرآن والليل واجـم
سريت تهز الكون سبحان من أسرى
وفي الحديث الشريف: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ (متفق عليه)، فرمضانُ محرقةٌ للذنوب، ومطهرةٌ من الآثام؛ قال : «الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان، مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر» (رواه الإمام مسلم). قال القرطبي: “قيل: إنما سمي رمضان؛ لأنه يَرمَض الذنوب؛ أي: يحرقها بالأعمال الصالحة”.
رمضان عباد الله… فرصة ثمينة للعتق من النار: يقول نبينا الكريم : «إن لله تعالى عتقاءَ في كل يوم وليلة، لكل عبدٍ منهم دعوةٌ مستجابة»؛ وقال : «إن لله تعالى عند كل فطرٍ عتقاءَ من النار، وذلك في كل ليلة»؛(صحيح الجامع).
رمضان مدرسة ربانية نتدرب فيها على الإخلاص والبعد عن الرياء: روى البخاري في الحديث القدسي، يقول ربنا الكريم: «…. يَتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها…»؛ ومعنى: “الصوم لي” أنه سرٌّ بين العبد وربه، لا يدخله الرياءُ؛ أي: لا تَدخله المُقاصَّةُ يوم القيامة؛ لقوله كما في البخاري: «لكل عملٍ كفارةٌ، والصوم لي وأنا أجزي به»، ذكر البيهقي في شعبه أن سفيان بن عيينة قال: “هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسِب الله تعالى عبدَه، ويؤدِّي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمَّل الله تعالى ما بقي عليه من المظالم، ويُدخله بالصوم الجنة”؛… فلا نتعجب إذًا إذا علمنا أن داود بن أبي هند: “صام أربعين سنة، لا يَدري عنه أهلُه ولا أهلُ السوق، يحمل غذاءه معه، فيتصدق به، فيظن أهلُه أنه أكل في السوق، ويظن أهلُ السوق أنه أكل عند أهله”.
فاللهم بلِّغنا رمضان، وتقبله منا، آمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد؛ عباد الله: إن الله تعالى هيأ لنا من المناسبات العظيمة، التي تصقُلُ الإيمان في القلوب، وتُحرّك المشاعر الفيّاضة في النفوس، فتزيد في الطاعات وتُضيّق مجالات الشر في المجتمعات، وتعطي المسلمين دروسا في الوحدة والإخاء، والتضامن والصفاء، والبرّ والصلة والهناء، والطُهر والخير والنقاء، والصبر والشجاعة والإباء، إنها منهل عذب، وحمى أمين وحصن حصين للطائعين، وفرصة لا تُعوّض للمذنبين المفرّطين، ليجددوا التوبة من ذنوبهم، ويسطّروا صفحة جديدة بيضاء ناصعة في حياتهم، مفعمة بفضائل الأعمال ومحاسن الفعال، ومكارم الخصال.
أيها المؤمنون: إنها فرحة كُبرى تعيشها الأمة الإسلامية هذه الأيام، فها هي تستعد لاستقبال دورة جديدة من دورات الزمن، مرت الأيام ومضت الشهور، وسيحلّ بنا هذا الموسم الكريم، وذلك من فضل الله سبحانه على هذه الأمة، لما له من الخصائص والمزايا، والهبات والعطايا.
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيــام
يا حبيباً زارنا في كــل عــــام
قد لقيناك بحب مفعــــــــم
كل حب في سوى المولى حــرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام.
فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير؛ تتنزل فيها الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات.
في رمضان أيها الأحبة… تهجُّد وتراويح، وذكر وتسبيح؛
في رمضان أيها الأحبة… تلاوة وصلوات، وجُود وصدقات؛
في رمضان أيها الأحبة… أذكار ودعوات، وضراعة وابتهالات.
عباد الله: إن استقبالنا لرمضان يجب أن يكون –أولاً- بالحمد والشكر لله جل وعلا، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم، والتوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي؛ كما تجب التوبة من المظالم وردّ الحقوق إلى أصحابها، والعمل على استثمار أيّامه ولياليه صلاحاً وإصلاحاً؛ فبهذا الشعور تتحقق الآمال، وتستعيد الأمة كرامتها، أما أن يدخل رمضان ويراه بعض الناس تقليداً موروثاً، وأعمالاً صورية محدودة الأثر ضعيفة العطاء، فذلك انهزام نفسي، وعبث شيطاني، له عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع.
فلتهنأ الأمة الإسلامية بحلول هذا الشهر العظيم، وليهنأ المسلمون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها بهذا الموسم الكريم، إنه فرصة للطائعين للاستزادة من العمل الصالح، وفرصة للمذنبين للتوبة النصوح والإنابة الصادقة.
كيف لا يفرح المؤمن بتفتيح أبواب الجنان؟! وكيف لا يفرح المذنب بتغليق أبواب النيران؟! يا لها من فرص لا يحرمها إلا محروم! ويا بشرى للمسلمين بحلول شهر الصيام والقيام! فالله الله -عباد الله- في الجد والتشمير، دون استثقال لصيامه، واستطالة لأيامه، حذار من الوقوع في نواقضه ونواقصه، وتعاطي المفطرات الحسية والمعنوية!!
ذ.حميد الرازي