لامسنا في عدد من حلقات المحور الأول لهذا الموضوع نماذج من أشكال كتابة بعض الكلمات التي لها تأثير في بناء دلالة الكلمة؛ أو تصنيفها في مستوى من الدلالة دون سواه، انطلاقا من شكل كتابتها الذي قد يحتمل أحيانا أكثر من شكل واحد مما له علاقة بإرادة المتكلم الذي ينبغي أن يكون على بينة من دلالة كل شكل حتى يكتب الكلمة بالشكل الذي يناسب قصده. وفي هذا السياق تمت الإشارة إلى علاقة شكل الكتابة بين العموم والخصوص أي بين شكل الكتابة في اللغة العربية بصفة عامة وما يتعلق بالرسم القرآني بصفة خاصة وقد اتضح أن التعبير بلفظ خاص الذي تجسم بكتابة خاصة لا يمكن التسليم باتفاق الاسم فيهما. بمعنى أن شكل كتابة كل لغة يمثل خصوصيتها.
وبعد هذا أنتقل بإذن الله وتوفيقه إلى مناقشة المحور أعلاه (2): أصالة الحرف في بناء دلالة الكلمة!!
والحرف أس البيان في نظام اللغة العربية لأن كل كلمة تتألف من حروف، وكل حرف له صفاته ومميزاته التي ينفرد بها أو تربطه بنسبة ما مع حرف آخر أو أكثر لا مع كل الحروف. وفي هذا السياق سنثبت عددا من النصوص التي تدل على أن الحرف أس البيان في اللغة العربية من ذلك ما يلي:
1 - صدر الخليل معجم العين بالحديث عن حروف المباني في اللغة العربية فذكر عددها مقسمة إلى نوعين أولهما –وهو الغالب من حيث عدده- حروف صحيحة، وثانيهما –وهو أقل عددا- عبارة عن حروف جوف. وفي هذا يقول: “في العربية تسعة وعشرون حرفا منها خمسة وعشرون حرفا صحاحا لها أحيانا [أحياز] ومدارج، وأربعة أحرف جوف وهي: الواو والياء والألف اللينة والهمزة، وسميت جوفا لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان ولا من مدارج الحلق ولا من مدرج اللهاة. إنما هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف…” 1/57.
وبعدما فصل الخليل القول في مخارج الحروف وأحيازها وخصائص بعضها وحدد الأبنية في اللغة العربية الأصول وأشكالها، ختم قبل بداية تصنيف مادة المعجم بقوله: “بدأنا في مؤلفنا هذا العين [أي بحرف العين] وهو أقصى الحروف، ونضم إليه ما بعده [أي في الترتيب التصاعدي للحروف حسب جهاز النطق عند الإنسان] حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب وبدأنا الأبنية بالمضاعف لأنه أخف على اللسان وأقرب مأخذا للمتفهِّم” 1/60.
يلاحظ من خلال النصين أعلاه أن الخليل يشير إلى مدارج الحروف في جهاز النطق عند الإنسان لقوله مدارج ولكلمة مدارج جمع تكسير مفردها مدرجة. في اللسان: “والمدارج الثنايا الغلاظ بين الجبال واحدتها مدرجة وهي المواضع التي يدرج فيها أي يمشي…” 2/266. وهذا يعني أن عددا من الحروف يخرج مرتبا حسب أسبقية خروجه من مخرج واحد كالجوف والحلق واللهاة واللسان.. إلخ. وكل مخرج يسمى حيزا وهذا يعني التنبيه إلى صفات الحروف التي يكتسبها من كيفية النطق به من حيز من أحياز مخرجه، ولاشك أن كيفية النطق بمجموعة من الحروف في بنية الكلمة تجسم إحساس المتكلم بما يريد أن يعبر عنه بصفة عامة أو أن يبلغه لمخاطب معين. والذي يلفت الانتباه في عبارات الخليل أعلاه قوله: “حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب” ومن الحروف التاسعة والعشرين المذكورة تتألف أول أبنية الكلام في اللغة العربية وفي هذا يقول الخليل أيضا: “فهذه تسعة وعشرون حرفا منها أبنية كلام العرب” ع 1/58.
- التطور الكمي لأحرف المباني في اللغة العربية:
نلاحظ أن عدد أحرف المباني التي ذكرها الخليل يقل عن رقم الثلاثين بحرف واحد. وقد تطور عدد أحرف المباني عند سيبويه إلى اثنين وأربعين حرفا، وهي متفرعة في كيفية النطق بها عن التسعة والعشرين وفي هذا يقول سيبويه: “فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا…
وتكون خمسة وثلاثون حرفا بحروف هن فروع، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار…” ك 4/431.
ونظرا لكون هذه الأحرف الفروع غير مجسمة برموز تشير إلى النطق بكل منها مثل بقية أحرف المباني الأصول فإننا سنقتصر على عرض واصف كل منها كما هو عند سيبويه مع التمثيل لبعضها بالأمثلة التي أوردها لها. من ذلك قوله وهي: النون الخفيفة والهمزة بين بين كالهمزة الثانية في قوله تعالى: قل أؤنبئكم(آل عمران: 15). أؤلقي(القمر: 25)… والألف التي تمال إمالة شديدة: فإذا قلت: (دراهم) أملت الألف لأجل كسرة الراء.. والشين التي كالجيم والصاد التي تكون كالزاي وألف التفخيم كالصلاة والزكاة.
وتكون اثنين وأربعين حرفا بحروف غير مستحسنة ولا كثيرة في لغة من ترضى عربيته، ولا تستحسن في القرآن وهي: – الكاف التي بين الجيم والكاف- والجيم التي كالشين –والضاد الضعيفة –والصاد التي كالسين –والطاء التي كالتاء – والطاء التي كالثاء – والباء التي كالفاء.
وقد ختم سيبويه الكلام عن هذه الحروف مجملة بقوله: فهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين حرفا جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون لا تتبين إلا بالمشافهة” ك 4/431-432 (بتصرف).
والملاحظ بخصوص أحرف المباني في اللغة العربية أنها مؤلفة من ثلاثة مستويات هي: أصل معتمد وهو أكثرها عددا وتحصل به الكفاية، وفرع معتبر وهو ستة أحرف فقط، وفرع ثانوي محدود الوظيفة في مستويات جودة الكلام العربي وهو سبعة أحرف.
والملاحظ أن القيود التي تربط الفروع بالأصول متباينة بين أمثلة المجموعتين الفرعيتين، فتعليل علاقة الفروع بالأصول في أمثلة المجموعة الأولى الستة لا تفصل الفرع عن الأصل وإنما تحدد سمته في نفس المجال.
ولذا نلاحظ أن أحرف هذه المجموعة في تسميتها محتفظة بسمتها الأصلية التي يضاف لها ما يحدد سمتها الجديدة فالنون نون لكنها خفيفة، والهمزة همزة لكنها بين بين، والألف ألف لكنها تمال فقط أو تفخم، ولا يعتبر أداة ربط ثانية ضمن الأصول والفروع في أحرف هذه المجموعة إلا الشين والجيم.
أما أمثلة المجموعة السبعة الأخيرة فأداة الربط الغالبة بين الأصول والفروع هي التشبيه فقط فهي لا تمت إلى الأصالة بأي شكل من الأشكال. وإنما تشبه الأصول فقط، ولعل هذا الضعف في ربط هذه الفروع بأصولها التي تشبهها هو الذي رتبها في الدرجة الضعيفة في الاستعمال في نظام أحرف المباني في اللغة العربية ولذا لا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر.
وعلى الرغم مما قيل عن هذه الأحرف السبعة الأخيرة فإنها تعتبر قيمة إضافية لأحرف المباني في اللغة العربية لأنها توسع مجال القدرة على النطق في اللسان العربي ليستوعب أحرف اللغات الأجنبية واللهجات ولذا ينبغي السعي إلى إثبات أشكال لها تضاف إلى التسعة والعشرين مع التمثيل لكل حرف منها بالقدر الكافي من الكلمات التي تجسمه، ولا ينبغي الاقتصار على المشافهة بها كما ورد على لسان سيبويه ك 4/431-432 بتصرف.
د. الحسين كنوان