أصبحت ظاهرة الغش في الامتحانات محل اهتمام كثير من الباحثين في المجال الاجتماعي، والنفسي، والتربوي، والديني لدق ناقوس الخطر المحدق بالقضية ولمحاولة إيجاد حلول للظاهرة المؤرّقة للرأي العام الوطني. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح بكل إلحاح هنا هو كيف تسربت ظاهرة الغش في الامتحانات للمجتمع المغربي؛ مجتمع التقوى؟ ومما يزيد في الاستغراب أن الأمّة الإسلامية ليست أمة غاشة؛ إذ جميع مبادئها تحرّم الغش وتنبذ الغاشين والغاشات، فلماذا نبت على أرضها هؤلاء؟
الامتحان الوطني لنيل شهادة الباكالوريا لهذه السنة يصادف -والحمد لله- شهر رمضان المبارك الذي هو شهر القرآن والتقوى. فالتقوى هي الغاية العظمى من فرض صيام شهر رمضان الأعظم كما هو معلوم ومقرّر في الشريعة الإسلامية. وهذه الغاية السامية هي التي عبّر عنها الباري سبحانه وتعالى صراحة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(البقرة: 183). فالأمل عظيم في أن يستحضر التلاميذ المعاني السامية لصومهم لله تعالى فيمتنعوا عن الغش. والأمل عظيم في أن يستحضر هؤلاء التلاميذ –وهم في قاعات الامتحان- المعاني الروحية لانقطاعهم عن المباحات من الأكل والشرب وغيرها من حقوقهم الفطرية والغريزية في الامتناع عن الغش. والأمل عظيم في أن يستحضروا هذه المعاني العظيمة للتقوى فيمتنعوا عن أعمال وأخلاق محرّمة في الشريعة الإسلامية المطهّرة، والتي على رأسها الغش في الامتحان. فهذا العمل من أفراد ما نهى عنه الرسول في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». فليس هناك زور أعظم من الغش في الامتحان.
فأوّل خطوة عمليّة للخروج بحصيلة إيمانية من شهر رمضان المعظم والتي ينبغي أن يفكر فيها التلاميذ هي التوبة من كل عمل لا يرضاه من يؤمنون بأنه يراقبهم في كل أحوالهم. فالتوبة مكّون من المكوّنات الأساسية لقيمة التقوى في الإسلام. فلا تقوى بدون توبة ولا توبة بدون تقوى؛ فهما عاملان متلازمان يكمّل أحدهما الآخر. والتوبة هنا تشمل الإقلاع عن الأعمال السيئة في الحاضر والمستقبل؛ إذ مفهوم التوبة يتمثل في الإقلاع عن الآثام التي ارتكبها المسلم في الماضي؛ مع العزم على عدم العودة إلى ذلك مرة ثانية مدى الحياة. وهكذا تسهم التوبة في حلول السلوكات النافعة محل السلوكات المشينة والمضرّة بالمجتمع. ولا يخفى على كل عاقل ما للغش في الامتحان من أضرار جسيمة وخطيرة على الفرد الغاشّ وأسرته ومجتمعه وأمّته عموما في مستقبل الأيام.
فتنمية المراقبة الربّانية لدى التلميذ والتلميذة ينبغي أن تكون محل اهتمام من قبل مؤسسة الأسرة، والمؤسسة التربوية، والمسجد، والشارع؛ لأن هذه المراقبة هي الحلّ الأنجع لهذه الآفة التي تنخر جسم المجتمع المغربي العليل بالفقر والجهل وغياب تكافؤ الفرص بين أفراده (غي لي فيه يكفه ولى زدته تعميه). فعلينا جميعا أن نعود إلى مراجع الإسلام الموثوقة لقراءة المعاني الحقيقية للصيام. وعلينا أن ننبش في سير السلف لنتعلّم كيف كانوا يمارسون هذه العبادة العظيمة. وفي سياق حديثه عن كيفية استثمار السلف لعبادة رمضان، يشير الأستاذ القرضاوي بقوله: “أمّا أسلافنا فقد جنوا ثماره وتفيّئوا ظلاله واستمدوا منه روح القوة وقوة الروح… وكان شهرهم كله تعلّما وتعبّدا وإحسانا، ألسنتهم صائمة فلا تلغو برفث أو جهل. وآذانهم صائمة فلا تسمع لباطل أو لغو، وأعينهم صائمة فلا تنظر إلى حرام أو فحش، وقلوبهم صائمة فلا تعزم على خطيئة أو إثم، وأيديهم صائمة فلا تمتد بسوء أو أذى.” هذا هو معنى المراقبة الربانية التي لا ينبغي أن يغيب عن أذهان أبنائنا وبناتنا وهم يجتازون الامتحان الوطني لنيل شهادة ذات أهمية قصوى في حياتهم. فلا ينبغي أن يحصلوا على شهادة تخوّل لهم الولوج إلى العمل والمؤسسات العلمية من أجل استكمال الدراسة؛ لأن سؤال الحلّية والحرمة يبقى مطروحا بقوة فيما سيجنونه من أموال من وظائف ولجوها بشهادة حصلوا عليها بالغش.
فرمضان شهر الأعمال الرّحمانية من الصيام والصلاة وعدم خيانة الأمانة وليس شهر الأعمال الشيطانية التي منها؛ بل على رأسها الغش في الامتحان الذي يعتبر خيانة للأمانة. والذي يخون الأمانة في الامتحان يمكن أن يخون الأمانة على مستوى الوطن والأمّة؛ لغياب الوازع الديني والرقابة الربانية. فهو يستبيح كل شيء في غياب أعين الرقباء البشريين الساهرين على روح العملية التربوية المتمثلة في العملية التقويمية الختامية التي تحسم في استحقاق المترشحين والمترشحات لنيل الشهادة من عدمه. فمن مقتضيات التقوى أن لا يقترف التلاميذ أعمالا تخالف مستلزماتها من الانضباط والالتزام بشرع الله تعالى الذي من أحكامه تحريم الغش في جميع تصرفات المسلم. فرمضان محطة تربوية هامّة يعيد فيها المسلم قراءة نفسه قراءة إصلاحيّة على مستوى السلوك والارتقاء به من خلال محطات هامّة تتجلى في الصلاة والصيام والأمانة. فكل هذه العبادات تسهم بالملموس في تطهير النفس وتزكيتها من أدران الغش في الامتحان مما يقوي الصلة بالله تعالى.
وفي الختام ينبغي أن تقوم مؤسسات المجتمع بدورها في التوجيه والتربية على السلوك الحسن ومحاربة الغش وغرس الأخلاق الفاضلة في الحياة التربوية في المدرسة. من هذه المؤسسات الآسرة، والمسجد، والمجتمع…إلخ. فالأسرة مؤسسة اجتماعية ينبغي أن تقوم بدورها في محاربة الغش في الامتحان؛ وذلك بتوجيه الأبناء والبنات نحو الاجتهاد والمثابرة في الدراسة والإعداد الجيد للامتحان. فدور الأسرة ينبغي أن يبرز خلال مرحلة الدراسة كلها؛ لا في أيام الامتحان فقط. فرمضان محطة تربوية هامّة يعيد فيها المسلم قراءة نفسه قراءة إصلاحيّة على مستوى السلوك والارتقاء به من خلال محطات هامّة تتجلى في الصلاة والصيام والأمانة.