عن أبي موسى الأشعري عن النبي قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» (1).
تقديم:
نستقي من هذا الحديث الشريف، تشبيه النبي الجليس الصالح بحامل المسك الذي تجد منه ريحا طيبة، وذلك لما يتصف به من أخلاق فاضلة بحيث إذا ذكرت الله أعانك، وإن نسيت ذكرك، كما شبه الجليس السوء بنافخ الكير، فإذا ما جالسته أحرق ثيابك، ووجدت منه ريحا خبيثة، فصحبته داء، ومجالسته فيها وباء.
من هنا نحاول رصد المواصفات التي يجب توفرها في الجليس الصالح، ثم نذكر بعض نتائج الرفقة الصالحة التي يبقى أثرها طويل الأمد، بل تتعدى ثمراتها إلى دار البقاء.
من صفات الصديق الصالح:
مما لا يحتاج إلى بيان، ولا يختلف حوله اثنان، أن الصديق الوفي يجب أن تتوفر فيه بعض الصفات التي هي من صلب الشريعة الإسلامية، فمن ذلك:
الوفاء – الأمانة – الصدق – البذل – الثناء. وبالمقابل البعد عن ما يضاد تلك الصفات.
لماذا هذه الشروط؟ لأنها عينها صفات الصلاح والفلاح إذا ما اتسم بها الجليس الصالح. وصدق ابن مالك حين قال في ألفيته أثناء حديثه عن عطف النسق:
تَالٍ بِحرفٍ مُتْبِعٍ عَطْف النَّسَق …. كاخصص بوُدٍّ وثَنَاءٍ مَنْ صَدَق
بل خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»(2).
فخير الأصحاب ما كان أكثرهم إحسانا إليك ولو بالنصيحة، فيكون دائم النصح والإرشاد لك، بطاعة الله وطاعة رسوله، فيعينك على العبادة ويذكرك بالله، وينبئك بلقاء الله؛ لأن كل خليل في غير طاعة الله فهو عدو لله بدليل القرآن، وسنة النبي العدنان، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فعن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله أي جُلسائِنا خير؟ قال: «من ذكركم بالله رؤيتَه، وزاد في علمكم منطقَه، وذكركم بالآخرة عملُه»(3). بالطبع، كثير من الناس تسرك رؤيتَه، فهو يدلك على الله بالأحوال قبل الأقوال، فما من موطن إلا وتلحظه فاعلا للخير نائيا عن الشر، ناصحا أصحابه ومن حوله، صوّاما قوّاما، محبوبا لدى الناس، تفتح له قلوبهم، وتنشرح بمجالسته صدورهم، ويعجبون بحديثه، فيألف ويؤلف، فمثل هؤلاء هم من ينبغي أن يكونوا رفقاء جلساء. وقد أحسن من قال:
إنَّ الطِّباع تَغلبُ الطِّبـاع فاخْتَر لنفْسِك الذي أطَاع
وقال الشاعر:
عن المرْء لا تسأل وسَلْ عن قرينه
فكل قرِينٍ بالمُقارَنِ يَقتَدِي
وقال علقمة بن لبيد في وصية لابنه: “يا بُنَيِّ: إن نزعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاختر من إذا صاحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة أعانك، وإن رأى منك حسنة عَدَّها، وإن بدت منك ثُلْمَةُ سدَّها”.
وهذا ما أرشدت إليه السنة النبوية الشريفة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(4).
ففي الحديث دعوة إلى التأمل بعين بصيرة إلى من تريد صحبته وصداقته، فإذا رضيت دينه وخلقه فذلك المبتغى، عندئذ يتقاسم معك همومك وأحزانك، ويكون عونا لك على أمر دينك ودنياك، وإن ألفيت غير ذلك فتجنبه وتنكب عنه، حتى لا تتبع طريقته وسيرته، فتتحول الصداقة إلى عداوة.
وصدق من قال:
اصحب ذوي الفضل وأهل الدين
فالمــرء منســوب إلى القـريـــن
وقال آخر:
أنت مُقاس بالذي اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلُو وتَنَلْ ذكرا جميلا
وبناء على هذا فخير الجلساء والأخلاء والأصحاب من يذكرنا بالله إذا رأيناه، وتنفعنا في الحياة حكمه وتصرفاته، وتعيننا على الطاعة نصائحه وسيرته، فهمته علو المجد، وشيمه الوفاء والحياء والعفاف والكرم.
من ثمرات الرفقة الصالحة امتداد بركتها واستمرار أثرها إلى يوم القيامة:
قال تعالى:اَلاَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(5). قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: اَلاخلاء يومئذ يريد يوم القيامة، بعضهم لبعض عدو؛ أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، إلا المتقين فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة. قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما(6).
ذكر أبو إسحاق أحمد الثعلبي (ت 427هـ). في هذه الآية، قائلا: “كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحدُ المؤمِنَيْنِ فقال: يا رب، إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما، فيقول الله تعالى: لِيُثْنِ كل واحد منكما على صاحبه، فيقول يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان.
قال: ويموت أحد الكافِرَيْن فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب، فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت، فيلعن كل واحد منهما صاحبه”(7).
إذن فالصحبة الصالحة تدوم ثمرتها ويستمر خيرها ونفعها دنيا وأخرى، وهذا ما حصل للمؤمنَيْن الذَين كانت صحبتهما مبنية على طاعة الله ورسوله والنصح والإرشاد والعمل بما يرضي الله ورسوله، والاستعداد للقاء الله، فكان كل واحد منهما نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب. بخلاف الكافرَيْن الذَين كانت علاقتهما أساسها اتباع الهوى والبعد عن نهج الله وشرعه القويم، فكانت الثمرة هي لَعنُ بعضهما بعضا، وعداء بعضهما بعضا في الآخرة. فكان أحدهما للآخر بئس الصاحب والأخ والخليل. ولهذا قيل:
وصاحب خيار الناس تنجو مُسَلَّمًا
وصاحب شِرارَ الناس يوما فـتنـــدمـــا
وقال الشاعر:
واحــــــذر مــؤاخـــاةَ الـــدَّنْـــيء
لأنه يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجرَبُ
واختر صديقك واصطفيه تفاخرا
إن القـــرين إلى المُقــــــارن يُـــنْسَــــبُ
من ثمرات الصحبة الصالحةكَسْبُ العبد محبَّةَ الله ونيل رضاه:
من ذلك ما ورد عن معاذ بن جبل حيث قال للرجل الذي قال له إني أحبك في الله، قال له معاذ أَبْشِرْ فإني سمعت رسول الله يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابِين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورِين فيَّ، والمتباذِلين فيَّ»(8).
نعم، إن محبة الله تشمل العاملين بطاعته، والمتعاونين على امتثال أوامره، وإن تفرقت أبدانهم وتباعدت دورهم، كما أنهم يزورون بعضهم بعضا لا لشيء، إلا أن محبة الله هي التي تجمعهم على تلاوة كتابه ومدارسة سنة نبيه، فيذكرون نعم الله وآلائه، ويبذلون أموالهم لله، فيكسبون محبة الله، ومن أحبه الله، أحبه العباد بفضل محبة الله له، فما أجمل الصحبة التي تكون لله وعلى محبة الله.
وصدق الشاعر حين قال:
سـألت الناس عن خل وفيٍّ … فقالوا ما إلى هذا ســـبـيــلُ
تمسك إن ظفرت بـودِّ حُـرٍّ … فإن الحُـرَّفي الدنيـا قـليـلُ
عن أبي هريرة عن النبي «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله ، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه»(9).
فما أجمل مثل هذه الصداقة!، وما أروع هذه الزيارة!، التي تتنزل في طريقها الملائكة، تبشر الزائر بأنه محفوف بمعية الله، ومحبته إياه، ومشمول برحمته ورضاه. وصدق رسول الله حين قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»(10).
نستنتج من خلال ما سبق، أن صحبة الصالحين، تعين الذاكرين، وتذكر الغافلين، وتنير طريق المؤمنين، وتجعل الإنسان مرتبطا بالرحمن، طاردا للشيطان، كما تورث محبة المنان، فما أحوجنا إلى صحبة الأخيار، ومجالسة الأبرار، ومجانبة الأشرار، الذين حذر من صحبتهم النبي المختار، لنيل رضى الرحمن، فنسأله سبحانه الخير الوفير، والأجر الكثير، في الدنيا، ويوم المصير، آمين آمين، والله هو الهادي إلى الصراط المستقيم.
ذ. علي السباع
————————-
1 – صحيح مسلم: باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء. ج 4 ص 2026.
2 - سنن الترمذي : باب ماجاء في حق الجوار، ج 4 ص 333.
3 – مسند أبي يعلى الموصلي: ج 4 ص 326.
4 – سنن الترمذي: ج 4 ص 167.
5 – سورة الزخرف: الآية 67.
6 – الجامع لأحكام القرآن : للإمام القرطبي، ج 16 ص 109.
7 – الجامع لأحكام القرآن : للإمام القلرطبي، ج 16 ص 109/ 110.
8 – موطأ مالك: ج 2 ص 953، باب ماجاء في المتحابين في الله.
9 – صحيح مسلم: باب في فضل الحب في الله، ج 4 ص 1988.
10 – صحيح مسلم: باب الأرواح جنود مجندة، ج 4 ص 2031.
جزاكم الله خيرا