من ينظر في عالم الإنسان يرى عجبا: شعوبا وقبائل كثيرة تتعدد أجناسها وألوانها وألسنتها وثقافاتها..
ومع هذا التنوع؛ فإنهم كلهم يرجعون إلى أصل واحد، وكلهم خُلقوا من شيء واحد… فسبحان الخالق.
وفي ذلك حكمة ربانية بالغة، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يأمر الإنسان بالنظر إلى أصل خلقه والتفكر في مادة خلقه، فقال جل وعلا: فلينظر الانسان مم خلق(الطارق: 5).
فهل منا من يتفكر في أصله ومبدئه وكيف كان قبل أن يصير إنسانا كاملا مستويا منتصب القامة؟
أصل الإنسان ومادة خلقه:
أخبر الرب الكريم سبحانه في آيات كثيرة من كتابه الحكيم بأصل الإنسان والمادة التي خلقه الله منها، ويتبين أن خلق الإنسان كان عبر مرحلتين:
المرحلة الأولى: المرحلة الترابية الطينية
قال الباري : هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون(الأنعام: 2). وقال سبحانه: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون(الروم: 20).
وقال: ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمإ مسنون(الحجر: 26). أي من الصلصال، من حمأ وهو الطين. والمسنون: الأملس… ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال: هو التراب الرطب، وعن ابن عباس ومجاهد أيضا والضحاك: أن الحمأ المسنون هو المنتن…(تفسير القرآن العظيم، 4/305).
وقال: فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب(الصافات: 11). قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك: هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس وعكرمة: هو اللزج الجيد، وقال قتادة: هو الذي يلزق باليد. (تفسير القرآن العظيم، 7/5).
ففي هذه المرحلة الأولى خلق الخالق سبحانه أول إنسان وهو أبونا آدم من تراب مخلوط بماء فصار طينا لازبا أي رخوا رطبا ثم تُرك حتى جف ويبس وصار صلصالا كالفخار..
قال الإمام الطبري رحمه الله في قوله تعالى: إنا خلقناهم من طين لازب: “وإنما وصفه باللزوب؛ لأنه تراب مخلوط بماء، وكذلك خُلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء، والتراب إذا خلط بماء صار طينا لازبا” (تفسير الطبري).
فالإنسان في أصله تراب ويوم يموت يقبر ويدفن في التراب ويتحلل ويعود كما كان أول مرة ترابا.
هذه هي حقيقة الإنسان، أي إنسان مهما كان جنسه ولونه ومهما كان شأنه غنيا أو فقيرا، حاكما أو محكوما، رئيسا أو مرءوسا…. فلينظر الإنسان مم خُلق؟
المرحلة الثانية: المرحلة المائية.
بعد المرحلة الترابية التي تتعلق بآدم عليه السلام تأتي المرحلة المائية التي تتعلق ببنيه..
قال الخالق العظيم جل وعلا: والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكمُ أزواجا..(فاطر: 11).
قال الباري سبحانه: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرَ في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نُخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يُتوفى ومنكم من يُرد إلى أرذل العمر لكيلا
يعلم من بعد علم شيئا…(الحج: 5).
“من نطفة“: أي مني، وهذا ابتداء أول التخليق. “ثم من علقة”: أي تنقلب تلك النطفة بإذن الله دما أحمر. “ثم من مضغة”: أي ينتقل الدم مضغة، أي: قطعة لحم، بقدر ما يُمضغ، وتلك المضغة تارة تكون “مخلقة” أي: مصور منها خلق الآدمي، “وغير مخلقة”: تارة، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها.. “ونقر في الأرحام ما نشاء” أي: نُبقي في الأرحام من الحمل الذي لم تقذفه الأرحام ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى، وهو مدة الحمل..” (تيسير الكريم الرحمن2/302-303).
قال : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يُخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يُتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون(غافر: 67).
والعلقة: “قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه”. قاله القرطبي (صفوة التفاسير3/560).
في هذه المرحلة خلق الله تعالى الإنسان من ماء وهو المني، وخلقه خلقا بعد خلق عبر أطوار، كما قال جل وعلا: يخلُقُكُم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تُصرفون(الزمر: 6).
فالطور الأول هو النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم اللحم، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر.. قال سبحانه: ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فجعلنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسنُ الخالقين(المومنون: 12-14).
ماء مهين: تبين إذن أن الإنسان خُلق من تراب ثم من ماء وهو المني.
فهل تفكرت أيها الإنسان في أصلك؟ إنه ماء. وأي ماء؟ ماءٌ وصفه الخالق سبحانه بأنه مهين، أي: حقير مستقذر.
قال جل وعلا: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلْق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين(السجدة: 7-8). قال الشيخ السعدي رحمه الله: “الماء المهين: هو النطفة المستقذرة الضعيفة” (تيسير الكريم، 2/506). و”في غاية الحقارة” (نفسه، 3/407).
وقال: ألم نخلُقْكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون(المرسلات: 20-23).
وأحيانا يُذكر الله سبحانه الإنسان بأصله وهو ذاك الماء المهين، من غير أن يذكره بالاسم تنبيها له وتأنيبا وتوبيخا حين يتكبر ويتعدى… كقوله تعالى: إنا خلقناهم مما يعلمون(المعارج: 39)، وقوله سبحانه: قُتل الانسانُ ما أكفره من أي شيء خلقه(عبس: 17-18). أي: ما أكفره لنعمة الله وما أشد معاندته للحق بعد ما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء، خلقه من ماء مهين..” (تيسير الكريم، 3/420). وأحيانا يوجه الله تعالى الإنسان لينظر ويتفكر مم خُلق، لعله يعتبر ويعود إلى رشده، كقوله جل وعلا: فلينظر الانسان مم خلق(الطارق: 5)، ثم يذكَره: خُلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب(الطارق: 6-7).
ذ. عبد القادر دغوتي