1 – شكل الكتابة: “المستوى الإملائي”: بين العموم والخصوص
قدمنا في الحلقة الماضية (30 أ) جريدة المحجة عدد 475، أمثلة لمعالجة العنوان الفرعي أعلاه “المستوى الإملائي: بين العموم والخصوص”.
ولاحظنا أن شكل كتابة الكلمات يرد في اللغة العربية بصفة عامة، وفي أسلوب القرآن خاصة. في حين أن بعضها الآخر لا يرد إلا في أسلوب القرآن الكريم، وهذا ما يثبت خصوصية الرسم القرآني، والنوعان معا -أي شكل الكتابة الذي يرد في اللغة بصفة عامة والقرآن وما يختص به أسلوب القرآن- قلت والنوعان معا لا يخلوان من وظائف دلالية كل في سياقه. وقد واعدنا بتقديم أمثلة خاصة بالقرآن الكريم، كما أشرنا إلى أن شكل الكتابة أو مرسوم الخط كما اصطلح عليه يميز كل لغة من بين اللغات الإنسانية، وذلك ما نقدم أمثلة له فيما يلي:
- دور مرسوم الخط في تمييز كل لغة بين لغات الأمم:
يقول الزركشي: “واعلم أن للشيء في الوجود أربع مراتب: الأولى: حقيقته في نفسه. والثانية: مثاله في الذهن -وهذان لا يختلفان باختلاف الأمم-، والثالثة: اللفظ الدال على المثال الذهني والخارجي. والرابعة: الكتابة الدالة على اللفظ -وهذان قد يختلفان باختلاف الأمم، كاختلاف اللغة العربية والفارسية، واللفظ العربي والهندي، ولهذا صنف الناس في الخط والهجاء، إذ لا يجري على حقيقة اللفظ من كل وجه..” (البرهان في علوم القرآن 1/458).
يوضح الزركشي في النص أعلاه مراتب إدراك الأشياء وكيفية التعبير عنها، حيث ذكر أن هذه المراتب أربعة؛ اثنتان تتفق فيهما كل الأمم والشعوب، في حين أن اثنتين الأخيرتين اللتين هما: التعبير بلفظ خاص الذي يجسم بكتابة خاصة لا يمكن التسليم باتفاق الأمم فيهما، وهذا ما تجسمه خصوصية التعبير عن المشاعر المراد تبليغها للغير عند أفراد كل أمة بأصوات خاصة، وتسجيلها بأشكال مجسمة خاصة. ولولا تمثيل الزركشي لهذه المسألة بالمقارنة بين [حروف] اللغة العربية والفارسية و[ألفاظ] للفظ العربي والهندي. لولا هذا التمثيل لقلنا إن هذا الحكم الذي يعني اختلاف لغات الأمم في اللفظ والكتابة ليس على إطلاقه، بدليل استعماله عبارة: “وهذان -إشارة إلى اللفظ والكتابة- قد يختلفان باختلاف الأمم…”، فاستعمل حرف “قد” مع الفعل المضارع “يختلفان” لتفيد العبارة التقليل لا الإطلاق. وعليه يمكن القول بأن الاختلاف بين لغات الأمم في المسألتين المذكورتين واردة كما دلت عليه المقارنة بين العربية وغيرها مما ذكر، كما أن الاتفاق بين بعض اللغات محتمل باعتبارهما لغة واحدة، ثم أثرت فيها عوامل الكون المختلفة لتصير لغات متعددة، لكل نوع منها خصوصيته، وهذا ما يمكن الحسم فيه انطلاقا من القرآن الكريم، وفي هذا السياق يقول الحق سبحانه: وعلّم آدام الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة(البقرة: 31)، وقال سبحانه: الرحمن علّم القرآن خلق الانسان علمه البيان(الرحمن: 2).
ودون أن نخوض في أقوال علماء فقه اللغة والمفسرين بخصوص ما علمه الله لمخلوقاته من بني الإنسان؛ نسلم بأن الذي تعلمه آدام أصل لما تعلمه كل الناس، وعلم الإنسان بالألف واللام البيان، ولا شك أن وحدة المصدر المعلِّم لهذا البيان توحي بوحدة هذا البيان في انطلاقته الأصلية، بيد أن هذه الوحدة الأصلية لا تنفي التفريع عبر مراحل الزمن الطويل، ولذلك نجد في كتاب الله ما يدل على هذا التفريع الحادث بحيث يختص كل فرع من فروع الأمة الخاصة بمميزاته التي أنشأها محيط البيئة التي يعيش فيها أفراد تلك الأمة، ولذلك يختلفون عن أفراد غيرهم من الأمم في ألوانهم ولغاتهم، وفي هذا يقول الحق سبحانه: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم(الروم: 22)، وقال عز من قائل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(إبراهيم: 4).
هذا بخصوص اللغة التي تمت الإشارة إليها عند الزركشي بكلمة [لفظ]. أما بخصوص الكتابة فيقول الحق سبحانه: علّم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم(العلق: 4-5). وقال تعالى: ن والقلم وما يسطرون(القلم: 1).
ولا شك أن النطق باللفظ المعين بين أفراد الأمة يفرض كتابته بأشكال معينة تجسم أجزاءه مثل الحروف، وأبنيته من الكلمات وفي ما يؤكد هذه العلاقة بين اللفظ وشكل الكتابة يقول الزركشي: “وقال الفارسي: لما عمل أبو بكر السراج كتاب (الخط والهجاء) قال لي: أكتب كتابنا هذا، قلت: نعم إلا أني آخذ بآخر حرف منه، قال: وما هو؟ قلت: قوله: ومن عرف صواب اللفظ عرف صواب الخط” (البرهان في علوم القرآن 1/458).
لعل ما قدمناه من الأدلة يكفي -رغم قلته- دليلا على وجود تمايز بين لغات الأمم في المسألتين المذكورتين، والملاحظ بخصوص آخر عبارة في النص أعلاه أن العلاقة بين اللفظ وشكل الكتابة معللة بما يوحي بتجسيم معنى معين في شكل الكتابة، ولعل فيما قدمناه من أمثلة بهذا الخصوص في الحلقات السابقة مما يتعلق بشكل الكتابة في اللغة العربية بصفة عامة كفاية.
بقي علينا أن نقدم أمثلة خاصة بمرسوم القرآن الكريم مما نبه إليه الزركشي، ونسب التفصيل فيه إلى ابن البناء المراكشي، وفي هذا السياق نقدم أمثلة بالقدر الذي يسمح به المجال، يقول ابن البناء: “فصل في الألف الناقص من الخط [يريد هنا ما ينتج عن إثبات الألف أو حذفها من تغيير المعنى مما اصطلح عليه في الرسم القرآني بالثابت والمحذوف. يقول:] كل ألف تكون في كلمة لمعنى له تفصيل في الوجود (إذا) اعتبر ذلك من جهة ملكوتية (أو صفة). [ويشرح معنى الملكوت بقوله: “ولما كانت المعاني تعتبر اعتبارين: [تعتبر] من باب الوجود بالفعل سواء كانت الآن محصلة (لنا) أو لم تكن، وتعتبر من باب الإدراك والعلم سواء كانت في الوجود أو لم تكن.
كما انقسم باب الوجود على قسمين: ما يدرك وما لا يدرك، والذي يدرك على قسمين: ظاهر ويسمى الملك، وباطن ويسمى الملكوت.] حالية، أو أمور علوية مما لا يدركه الحس، فإن الألف تحذف في الخط علامة لذلك.
و(إذ) اعتبر من جهة (ملكية) [أي الموجود الظاهر الذي يدرك كما هو مبين في النص [...] قبله] أو صفة (حقيقية) في العلم (و)أمور سفلية (ثبت) الألف.
[أمثلة تطبيقية قال:] واعتبر ذلك في لفظتي القرآن والكتاب [عندما تكتبان بإثبات الألف، أو حذفها حيث يشار إلى مدّ الصوت بعلامة (ا) فوق الحرف الممدود صوته مما يسمى الحذف] فإن القرآن هو تفصيل الآيات التي أحكمت في الكتاب، فالقرآن أدنى إلينا في الفهم من الكتاب، وأظهر في التنزيل. قال الله تعالى في هود: الر كتب أحكمت آيته ثم فصلت من لدن حكيم خبير(هود: 1).
وقال في فصلت: كتب فصلت آيته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(فصلت: 3). وقال تعالى: إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه(القيامة: 18). ولذلك ثبت في الخط ألف القرآن (وحذف ألف الكتاب)”.
وقد حذف [ألف] القرْءان في حرفين [أي كلمتين] هو فيهما مرادف للكتاب في الاعتبار. قال (الله) تعالى في يوسف: إنا أنزلناه قرءانا عربيا(يوسف: 2). وفي الزخرف: إنا جعلناه قرءانا عربيا(الآية: 3). والضمير في الموضعين [أنزلناه-جعلناه] ضمير الكتاب المذكور قبله…” (عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل ص65 –بتصرف).
د. الحسين كنوان