جاء الإسلام، خاتمة لرسالات السماء، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من خلال خير أمة أخرجت للناس، تحمل شارة التميز، وعلامة الريادة والشهادة، بفضل استيفائها لشروط ذلك التميز وتلك الشهادة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والوسطية، مصداقا لقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ ِبالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللّهِ (آل عمران: 110)، وقوله جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمُ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة: 143).
ويمثل جواب الصحابي الجليل ربعي بن عامر عن سؤال رستم: “ما جاء بكم” لب رسالة الإسلام، فقد أعلن ذلك الجواب في صيغة بلاغ جازم ملؤه الاعتزاز واليقين بما يقول، لقد قال في أنفة وشموخ ذهل له رستم وقومه: “لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
لقد سطر المسلمون في عهودهم الزاهرة صفحات مشرقة، مجسدين بكل صدق وإخلاص، وحب ووفاء، مضمون ذلك البلاغ الخالد، الذي عكس في عبارة بليغة موجزة، معالم النموذج المجتمعي والحضاري لأمة الإسلام، الذي يتأسس على قاعدة صلبة من القيم النبيلة السامية، ويدعو بالحال قبل المقال، شعوب الأرض قاطبة، للدخول في السلم كافة. ولقد شكلت عهود الإسلام في تاريخ الإنسانية عهودا للرحمة والأمان، والسلم والاطمئنان، ظلت تترسخ وتتوسع باطراد، تبعا لاكتساب فتوح الإسلام مزيدا من المواقع والمساحات.
غير أن عوامل نكدة، ترجع في العمق والأساس لتفريط المسلمين وغفلتهم ونكوصهم عن منهج الدين القيم، مصداقا لقوله تعالى: قل هو من عند أنفسكم عملت على نقل الكيان الإسلامي من القوة إلى الضعف، ومن التماسك إلى التفكك والارتخاء، ومن العزة إلى الذلة، ومن الفعالية إلى العجز والخواء.
وإن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم في وضعهم الكسيح، وصورتهم المليئة بالندوب والتشوهات، وكيانهم المنخور بالعلل والعاهات، ليكاد يقضي حيرة وعجبا، وغيظا وغضبا، من هذا الإمعان في التردي، وهذا الاستمراء الغريب، من طرف المسلمين، وخصوصا من يمسكون منهم بمقاليد السلطة ويتحكمون في دواليب الأمور، لهذا الواقع الموسوم بأحط أمارات البؤس، والبعد عن الحد الأدنى لشروط المجتمع الإنساني الراشد الذي يستحق التقدير والاحترام، ويتخذ لنفسه مكانا لائقا في دنيا الناس.
لقد أصبح من الوضوح، بل ومن السفور، بمكان، في المشهد العام، بكل أبعاده: السياسي التدبيري، والاجتماعي الاقتصادي، والقيمي الأخلاقي، وجود عربدة طاغية، وحركة بالغة الشراسة لمعاندة الإسلام، ليس على مستوى عودته للإشراف على الحياة، في جميع مناشطها ومجالاتها، فذلك شأن آخر دونه، في الوقت الراهن، خرط القتاد، ولكن على مستوى القضاء على البقية الباقية من الممارسات التي تحمل رائحة الإسلام في المجتمع، تحت دعاوى وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، في إصرار بين، على تجفيفه من كل قطرة من قطرات الوعي الإسلامي، أو ذرة من ذرات الاتصال بمرجعية الإسلام وثقافته، وإخضاعه النهائي للقالب العلماني، ليصبح قطعة طيعة في جغرافية الغرب، تلبس لبوسه، وتصطبغ بصبغته، وتنخرط في تحقيق أهدافه.
إن لسان حال ومقال قوى متنفذة في مجتمعنا، وهي تطارد كل صوت أو قيمة من قيم الإسلام، ما جاء في قوله تعالى حاكيا عن المناوئين للإسلام: لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 26)؛ لأنها تدرك بقرائن الأحوال أن لهذا القرآن سلطانا على النفوس، وأنها لا تملك، إذا ما خلي بينها وبين نوره، إلا أن تنغمر فيه، وتهتدي بهداه.
لقد كتب العلامة الشيخ أبو الحسن الحسني الندوي رحمه الله كتابه الخالد: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” لبيان الفرصة الذهبية التي ضاعت من الإنسانية، جراء إفلات زمام القيادة ممن وكل إليهم أمر إبلاغ الإسلام إلى من يجهل حقيقته من الشعوب والأمم الشاردة، وإعطاء القدوة في تمثله وتطبيقه، وما أحرانا أن نقول، على غرار ذلك: ماذا خسر العرب والمسلمون بنكوصهم عن الإسلام، بل بمحاربته ونقض عراه، والتكالب على من يسعون إلى حمل لوائه والدعوة إلى احترامه، ولو في بعض جزئياته ومكارمه.
إننا نقول بملء أفواهنا ونصرخ ملء كياننا: أيها الناس، دعوا الإسلام يعمل عمله، فأنتم إن ساهمتم في عرقلته وتعطيله إلى حين، فإن نوره لا يلبث أن ينفجر ولو بعد حين، فتلك سنة رب العالمين القائل في محكم التنزيل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون (الصف: 8).
د. عبد المجيد بنمسعود