إن الدعوة إلى الله تعالى شرف جليل، وخير كثير، لا ينال وسامها إلا ذو حظ عظيم، فصاحبها يقوم بأفضل المهام على الإطلاق، وقد نص على ذلك الحق سبحانه في قرآنه العظيم فقال: ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (فصلت: 32). فبنص القرآن لا يوجد أفضل وأحسن ممن دعا إلى الرحمن، وكيف لا وهو يعرف الناس بالله.
ولما كانت للدعوة هذه المكانة السامية الرفيعة، كان لابد لصاحبها أن يتصف بمجموعة من الصفات حتى يكون من أهلها، وحتى يفوز بأجرها وخيرها الذي أعده الله تعالى للداعي إليه.
ومن هذه الصفات التي وجب على الداعية أن يتحقق منها بتزكيتها وتنميتها إن وجدت، وبإقامتها إن انعدمت ما يلي:
أولا: الإخلاص:
ننطلق في بيان هذا المعنى العظيم الذي يجب على الداعي إلى الله أن يتحقق منه أشد التحقق من حديث رسول الله : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (صحيح البخاري). فإن كانت الدعوة إلى الله يثاب عليها صاحبها، وتعطى بفضل الله أكلها وثمارها؛ لأن الكلمات تخرج صافية نقية كالعسل المصفى، فالداعي لا يدعو الناس لحزبه، ولا لجماعته، ولا لمؤسسته، وإنما يدعو لله الواحد الأحد الفرد الصمد. يقول سبحانه: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله (يوسف: 108)، وقال تعالى: ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله (فصلت: 32).
فالداعي يدعو لله وحده دون سواه، فإن كان هذا سبيله، تشرق بفضل الله دعوته وأزهرت وأنبتت الكلأ والعشب الكثير.
ثانيا: مخاطبة الناس باللين
لما أرسل الله سيدنا موسى إلى من ادعى الألوهية وطغى وتجبر وعاث في الأرض فسادا، وقتل الأطفال، واستباح الأعراض، قال الله لموسى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (طه: 43).
فالله هو العليم الخبير بأحوال عباده، وما يصلح لهم، فلم يقل له سبحانه قولا له قولا قاسيا، بل لينا؛ لأنه بهذا الخطاب اللين قد يتذكر أو يخشى.
ولذلك مهما عظم بعد الناس عن منهج الله ينبغي لك أيها الداعي مخاطبتهم باللين والرفق، وتحبيبهم في خالقهم، لأن خطاب القسوة والتنفير لا ينتج أكلا ولا يعطي ثمارا.
تدبر في قول الله لسيدنا محمد : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك(آل عمران: 159).
فإذا كان الداعي إلى الله غليظ القلب سينفر المدعوون من خطابه، ويشمئزون من كلامه، عوض أن يرتاحوا بلينه.
ثالثا: الموازنة بين التبشير والإنذار
من الحكمة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها الموازنة بين البشارة والإنذار، “والبشارة هي الإخبار بالمحبوب، والإنذار هي الإخبار بالمكروه” (أحكام القرآن لابن العربي، ج: 1، ص: 25).
فالداعية يَخْبَرُ حال المدعويين، ويعرف الخطاب الأليق بحالهم، إن اقتضوا بشارة بشرهم، وإن اقتضى حالهم تنذيرا أنذرهم.
تدبر أيها الداعي خطاب ربنا لرسوله : يا أيها المدثر قم فأنذر(المدثر: 1-2)، فلم يخاطبه بقوله: قم فبشر؛ لأن حالهم يقتضي نذارة لا بشارة.
والداعي إلى الله إذا رأى الناس متمسكين بحبل الله، مقيمين شرع الله، مسارعين إلى الخيرات، تاركين للمعاصي والسيئات، فالحال هذا يقتضي بشارة ليزدادوا إقبالا على رب الأرض والسماوات.
رابعا: التواضع وعدم الترفع على المدعويين
الداعي إلى الله لا ينبغي له أن يعتقد أنه أفضل من مدعوييه بدعوته، بل عليه أن يتواضع وألا يترفع؛ لأن الترفع والعجب وازدراء الناس سلوك شنيع يظهر أثره في الخطاب ويشعر المدعو بذلك، فلا يكون لكلامه حينئذ أثر في القلوب، وإنما تشمئز لكلامه الأفئدة.
قال رسول الله : «من تواضع لله رفعه الله» (صحيح البخاري). فإذا تواضع الداعي إلى الله في دعوته رفعه الله في عيون مدعوييه، وألقى القبول في قلوب مستمعيه.
فالداعي الحكيم هو من تحقق من نفسه قبل الدعوة، فخلص النفس من أدرانها وأوساخها ودخنها، حتى تكون دعوته خالصة صافية لا تشوبها شائبة ولا يخالطها عجب ولا تعال.
خامسا: العلم بالمسألة التي يدعو لها
من الأمور التي يجب على الداعية أن ينتبه إليها أن يكون على علم وبصيرة بالمسألة التي يدعوا الناس إليها. وجاء التعبير هاهنا بالمسألة لأنه لا يشترط معرفة أحكام ومسائل الشريعة بالجملة والتفصيل حتى يقوم الداعي للدعوة، لأن رسول الله قال: «بلغوا عني ولو ءاية» (صحيح البخاري). وإنما الشرط الأساس أن يكون على بصيرة وعلم وإتقان إلى المسألة بعينها التي يدعو إليها، ولذلك قال سبحانه: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني(يوسف: 108).
فالداعي يدعو على بصيرة ونور حتى لا يَضل ويُضِل.
سادسا: معرفة واقع الناس
والمقصود بهذه المسألة أن الداعي إلى الله حكيم في كلامه، يعرف ما يحتاجه الناس أو ما يعبر عنه ب: “واجب الوقت”، فإن رأى اعوجاجا قومه، أو انحرافا أصلحه، فهو خبير بواقع الناس وأحوالهم. فيخاطب الناس خطابا يمس أحوالهم وانحرافاتهم حتى يشعر المدعو في خاصة نفسه أن الخطاب يمسه ويمس انحرافه..
فلا يكون قصد الداعي أن يلقي كلماته وكفى، بل لابد أن يخطط ويهيئ ويشخص الداء بدقة ثم يضع الدواء بحكمة.
سابعا: الداعي إلى الله يُؤثر ولا يَتأثر
إن الداعي قد ينزل ببيئة يعمها الفساد والمنكر، فإن لم يكن مجاهدا نفسه بالقرآن، متشبثا بحقائقه، مستبصرا ببصائره، مستنيرا بأنواره، فإنه قد يركن إلى فسادهم وقد جاء لإصلاح حالهم، فلابد له أن يتحصن بحصن القرآن، ويجاهد به.
فهو إذن يؤثر بدعوته، يؤثر بحاله، يؤثر بمقاله، ولا يتأثر بفساد مجتمعه. وله في رسول الله الأسوة الحسنة الذي دعا مجتمعا يملأه الفساد وتعمه المنكرات، لكنه عليه الصلاة والسلام أثر ولم يتأثر، وكذلك صحبه الكرام ومن جاء بعدهم من التابعين ومن سار على نهجهم من العلماء الربانيين الراسخين في العلم.
وقد أجاد أحد الحكماء حين قال: “الداعي إلى الله يرفع مدعوييه إلى مستوى الشرع، ولا ينزل بالشرع إلى مستوى مدعوييه”.
ثامنا: تنوع أساليب الخطاب
الداعي إلى الله حكيم في خطابه، لا يلقي خطابا جافا باردا، وإنما يلقي خطابا فيه روح وحياة، حتى يشد سمع المدعو إليه، فينوع خطابه ما بين آية قرآنية، أو سيرة نبوية، أو قصة معبرة، أو طرفة مفرحة… وهذا النوع من الخطاب هو الذي يجعل المدعو يتجاوب مع الداعي ويُشد إليه، وهذا منهج القرآن وسنة النبي العدنان.
تاسعا: الداعي إلى الله يدعو إلى الله بحاله قبل مقاله
وبيانها أن الداعية يعظ الناس بفعله قبل قوله، فلا ينهى عن منكر ويأتيه، وإنما تظهر دعوته على حاله وسلوكه، فإن دعا إلى الصدق يكون من الصادقين، وإن دعا إلى التواضع يكرن من المتواضعين، وإن دعا إلى العدل يكون من العادلين، وإن دعا إلى الصبر يكون من الصابرين، وإن دعا إلى كل بر يكون أول المطبقين، وإن نهى عن سوء أو منكر يكون أول المجتنبين. فإن كان هذا حاله استجاب له المدعوون، أما إن فسد حاله وسلوكه وصلح مقاله، فهذا لا قيمة لكلامه ولا أثر له في الناس. قال الله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (الصف: 2-3). فالله يمقت الذي يقول ولا يفعل، ومن مقته الله مقته الناس.
فالداعية الحكيم يسارع إلى التطبيق ثم يدعو الناس إلى ما طبق، وتأمل أيها الداعي في سيرة رسول الله عندما أمر صحبه الكرام أن يحلقوا فلم يفعلوا، لكنه لما بادر إلى الحلق ورأوه نحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض.
فالدعوة بالحال أبلغ من المقال.
عاشرا: ابتغاء الأجر والثواب من الله وحده دون سواه
الداعي إلى الله يقوم بمهمة غالية ثمينة، كيف لا وهو يدل الناس على الله، فهو إذن يتعامل مع الله، ويطلب الأجر منه وحده دون سواه، وقد قال الحق سبحانه مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (الأنعام: 91).
فالداعية لا يريد جزاء ولا شكورا ولا ثناء من أحد، وإنما يطلب الثواب من الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وهذا الباعث الذي ينبعث في نفسه –ابتغاء الأجر من الله- هو الذي يعطيه طاقة إيمانية على الاستمرار في دعوته ويقويه إن ضعفت نفسه، كما يجعل الداعية يبذل الغالي والنفيس في سبيل تعريف الناس بالله. أما إذا غاب هذا الباعث فإن الداعية يضعف الداعية ويستكين وينام ويتقاعس ويتكاسل.
أحد عشر: الداعي إلى الله لا يتعلق بهداية القلوب فأمرها لعلام الغيوب
وبيانها أن الداعية يجتهد ويجاهد نفسه ليبين للناس الصراط المستقيم، ويدلهم على أمر الله سبحانه، وهذه هي وظيفته ومهمته التي قال عنها سبحانه: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (الشورى: 49). فهو يهدي هداية توجيه وإرشاد وكفى، أما هداية القلوب فأمرها لله وحده، وهي ما قال عنها سبحانه: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (القصص: 56).
فشأن الداعية شأن الفلاح الذي يحرث الأرض ويغرس البذور ويقوم بكل الأسباب، أما الإنبات فمن الله وحده، فكذلك حال الداعية يقوم بالدعوة على الوجه الذي أمره الله به أما الهداية فأمرها بيد الله.
فهذه جملة من الصفات التي يجب على الداعية التحقق والتخلق بها، وبها تقوم الدعوة وينجح الداعية، والله الموفق لكل خير وهو يهدي السبيل، قال سبحانه: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا (الأنفال: 71).
احميد حمزة